ماذا جنى المثقفون ؟

IMG_20160115_154921

أطالع منذ فترة مقالات لبعض مثقفينا الكبار على اختلاف مشاربهم ، وهي مقالات أشبه بقصائد النقائض والهجاء التي قيلت في الزمن القديم ، وفاضت بالسبائب والشتائم والردود ، واندثرت ، وذهبت بذهاب الأيام ، وهجرها الناس ؛ لقذاعتها ، ولعدم رغبتهم في إشغال أنفسهم بأدبيات قيلت بسبب خلافات شخصية ، أو نعرات قبلية ، أو مفاخرات تعصبية !
وأذكر أنني كنت أسأل أساتذة الأدب أيام الدراسة عن أحقية هذه القصائد بحضورها في محاضرات مادة الأدب الذي عَرَفناه بأنه :
” أحد أشكال التعبير [ الإنساني ] عن مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه بأرقى الأساليب الكتابية التي تتنوع من النثر إلى النثر المنظوم إلى الشعر الموزون ؛ لتفتح للإنسان أبواب القدرة للتعبير عما لا يمكن أن يعبر عنه بأسلوب آخر “.
وكعادة أهل اللغة الذين لا يحارون في إجابة ، فكانوا يذكرون أسباب دراسة مثل تلك القصائد على اعتبار أنها جزء من تاريخ الأدب ، وأنها قد حوت كثيرًا من مفردات اللغة في زمن توهج اللغة ، وهي إجابات كنت أجلها من أساتذتي الفضلاء ، لكنها لم تصرفني عن قناعتي الرافضة لكل أسلوب جارح ، وقالب فاضح !
وكذا هذه المقالات التي لا تضيف للقراء شيئًا سوى المطالعة ، والبحث عن مثالب هذا ، ومساوئ ذاك !! وإني لأعجب والله من حال أولئك المثقفين ، وهم الذين ينتظر منهم شباب المجتمع موقفًا موحدًا ، لا خلافًا يورث الانقسامات والتفرق !!
ماذا سيجني القارئ من خلافات أشخاص صاروا يتعاركون من أجل إثبات الذات أمام الآخرين سلاحهم القلم ، وميدانهم الورقة !! وليتهم وظفوا أسلحتهم فيما يخدم وطنهم ، ووحدة الصف ، وعدم الاستمرار في الخلافات والمماحكات التي لا تزيد الصف إلا ضعفًا ، ولا تزيد البنيان إلا وهنًا !!
عودوا إلى التاريخ ، واقرأوا سير المصلحين الكبار ، والمفكرين العظام ، ثم انظروا ، هل كانوا يشغلون أنفسهم والآخرين بخلافاتهم مع غيرهم ، والمضي في الخلاف من أجل الانتصار وإثبات الذات ، وفي سيرة خير البشر عليه الصلاة والسلام أوضح دليل ، وأبين برهان ، فهو الغاية في الأخلاق بصبره ، وحِلمه ، وإشفاقه ، فها هو لمَّا كسرت رباعيته ، وشج وجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم غزوة أحد، شق ذلك على أصحابه ، وقالوا : لو دعوتَ عليهم ، فقال : ” إني لم أبعث لعانًا ، ولكني بعثت داعيًا رحمة لهم ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ” ( مسلم ) .
قال القاضي عياض في كتابه الشفا : ” .. قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ، ودرجات الإحسان ، وحسن الخلق ، وكرم النفس ، وغاية الصبر والحلم ، إذ لم يقتصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم ، ورحمهم ، ودعا ، وشفع لهم ، فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال : فإنهم لا يعلمون ” .
ماذا أقول إذا وصفت محمدًا
عجز البيان وحلمه لا يفقد
وقد يكون لكل إنسان رأيه ، وقاعدته التي يبني عليها ، وقناعاته الشخصية التي يسير في ضوء منها ، لكنني لا زلت أؤمن بأن الخلافات بين أطياف المجتمع التي صرنا نقرأ عنها ، ونطالعها ما هي إلا بذور بذرها متربصون بنا ، ويريدون لبذرهم النمو والاستواء حتى يزيدوننا فرقة ، واختلافًا ، وضعفًا !!
ماذا لو قام المثقف بعرض أفكاره ورؤاه في إطار يَعْرف الدين والأخلاق والذوق العام ، ثم ترك للناس مناقشتها دون أن يتعصب لها ، أو يهاجم من خالفها !! في ظني أن صاحب الفكر النير ، والرؤية الصحيحة الناصحة ، والأطروحات التي ترقى بأفراد المجتمع هو من سيحظى بالقبول والتأثير في الناس ، وهي أهداف سامية يجب أن يسعى إليها المثقف الجدير بهذا الوصف ، وأما الخلاف واستعراض القوى والمهاجمة والمدافعة فليس ميدانها الفكر والعلم والمعرفة !!
إن المثقف الحق هو الذي يَجهد من أجل تطوير أفكار المجتمع ومفاهيمه الضرورية ، وهو الذي يشعر بالالتزام الفكري تجاه مجتمعه ، وهو أشد أفراده التزامًا بالقيم ، وتعهدًا بالمبادئ .
وهو الذي يتبنى قضايا مجتمعه ؛ فيدافع عنها بالحرف المضيء ، والكلمة المنيرة دون تعصب ، أو مهاجمة ، أو دخول في جِدال مع لا تعقبه سوى الاختلافات والخلافات ، وقد جاء في ” مجمع الأمثال ” للميداني أن من ترك المراء سلمت له المروءة .
وفي ” الآداب الشرعية ” لابن مفلح ، قال
عبد الرحمن بن أبي ليلى : ” ما ماريت أخي أبدًا ؛ لأني إن ماريته إمَّا أن أكذبه ، وإمَّا أن أغضبه ” .
وقال ابن سنان الخفاجي :
فإيَّاك إيَّاك المراءَ فإنَّه
سببٌ لكلِّ تنافرٍ وتشاوسِ
وافعلْ جميلًا لا يضيعُ صنيعُه
واسمحْ بقوتِك للضعيفِ البائسِ
لا تفخرنَّ وإن فعلتَ فبالتُّقى
ناضلْ وفي بذلِ المكارمِ نافسِ
فالمثقف مطالب بالكثير .. والوطن وأبناؤه يحتاجون إلى المثقف الذي يُعلي البناء ، ويدأب من أجل الارتقاء بالفكر الإنساني في زمن كَثُر فيه المتربصون المتكلمون ، وأخذ الإعلام يبحث عن الإثارة بالبحث عن كل مخالف يبحث عن الأخطاء ، ويلهث وراء الأضواء ، فاحتاج الناس إلى صاحب الفكر الراسخ عِلمًا ، الثابت موقفًا ، حروفه تبني ولا تهدم ، وكلماته تتقدم بالآخرين ولا تهوي بهم ، فهو صاحب ثقافة رصينة بنى عليها أخلاقه ومبادئه ، أخذ بأيدي الآخرين فدفعهم إلى الأمام ، ولم يشغل نفسه بجدال عقيم ، وخلاف سقيم ، فإن هاجمه أحد حَلُم عليه إيمانًا بدين ، واتباعًا للسبيل المستقيم ، وانصرافًا إلى الهدف الأسمى ، قال أبو الأخفش الكناني :
لا تحسبنَّ الحلمَ منك مذلةً
إنَّ الحليمَ هو الأعزُّ الأمنعُ

ماجد الوبيران

>

شاهد أيضاً

رحل عامر المساجد

بقلم/ عوض عبدالله البسامي مات الهدوء ومات اللين والحلم وغربت التؤدة والأناة مات الشيخ الوقور …

تعليق واحد

  1. يوسف آل حازب

    أخي ماجد . من سنة الكون أن يبقى الصراع محتدما بين الخير والشر , ولن يتمايز ذلك ولن تتبين وقائعه إلا من خلال العرض والنقاش ومن ثّمَ الموافقه أو المعارضة . أن تطرح الآارء مقولوبة جاهزة للتعاطي أمر يصعب تحقيقه حتى في مدينة أفلاطون الفاضلة . فضلا عن مجتمع تتجاذبه أفكار ورؤى متنوعه مختلفة الدرجة في القوة والتأثير .

    الحراك الفكري يستمر قرونا ولكنه ينتهي إلى نتائج واضح وحضارة راسخة . فالأفكار تنقح بسبب طول المداولة وكثرة الطرح وتتحول إلى معتقدات تتجذر في النفوس . وتبدأ بعد ذلك دورة جديدة من الحوار المتفاوت في الدرجة والأهمية . فتقصى الأفكار الهشة المهترئة وتبرز بكل تميز الأفكار الصلبة الراسخة .

    نعم للنقاش آداب يجب أن تراعى ولكن لنتذكر أن لكل إنسان وعاء فكري يقدم فيه فهمه للحياة والكون والإنسان . ومن هنا فسوف نرى العديد من الأوعية الفكرية والمنتجات العقلية تسوق أمام الجميع ولكل بضاعة زبون وشارٍ .

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com