قصيدة الرحيل ( واحرّ قلباه )

img-20161127-wa0001
الدكتور _ محمد بن علي بن درع

 

 

أولاً : القصيدة :
وَاحَــرَّ قَلبــاهُ مِمَّــن قَلْبُـهُ شَـبِمُ ومَــن بِجِسـمي وَحـالي عِنْـدَهُ سَـقَمُ
مـا لـي أُكَـتِّمُ حُبّـاً قـد بَـرَى جَسَدي وتَــدَّعِي حُـبَّ سَـيفِ الدَولـةِ الأُمَـمُ
إِنْ كــانَ يَجمَعُنــا حُــبٌّ لِغُرَّتِــهِ فَلَيــتَ أَنَّــا بِقَــدْرِ الحُـبِّ نَقتَسِـمُ
قــد زُرتُـه وسُـيُوفُ الهِنـدِ مُغمَـدةٌ وقــد نَظَــرتُ إليـهِ والسُـيُوفُ دَم
وَكــانَ أَحسَــنَ خَــلقِ اللـه كُـلِّهِمِ وكـانَ أَحْسَـنَ مـا فـي الأَحسَنِ الشِيَمُ
فَــوتُ العَــدُوِّ الِّـذي يَمَّمْتَـهُ ظَفَـرٌ فــي طَيِّـهِ أَسَـفٌ فـي طَيِّـهِ نِعَـمُ
قـد نـابَ عنكَ شَدِيدُ الخَوفِ واصطَنَعَتْ لَــكَ المَهابــةُ مـا لا تَصْنـعُ البُهَـمُ
أَلــزَمْتَ نَفْسَــكَ شَـيْئاً لَيسَ يَلْزَمُهـا أَنْ لا يُـــوارِيَهُم أرضٌ ولا عَلَـــمُ
أَكلمــا رُمـتَ جَيشـاً فـانثَنَى هَرَبـاً تَصَــرَّفَتْ بِــكَ فـي آثـارِهِ الهِمَـمُ
علَيــكَ هَــزمُهُمُ فـي كُـلِّ مُعْـتَرَكٍ ومــاعَلَيـكَ بِهِـمْ عـارٌ إِذا انهَزَمـوا
أَمـا تَـرَى ظَفَـراً حُـلواً سِـوَى ظَفَرٍ تَصـافَحَت ْفيـهِ بيـضُ الهِنْـدِ والِلمَـمُ
يــا أَعـدَلَ النـاسِ إِلاَّ فـي مُعـامَلَتي فيـكَالخِصـامُ وأَنـتَ الخَـصْمُ والحَكَمُ
أُعِيذُهــا نَظَــراتٍ مِنْــكَ صادِقَـةً أَنْ تَحْسَـبَالشَـحمَ فيمَـن شَـحْمُهُ وَرَمُ
ومــا انتِفـاعُ أَخـي الدُنيـا بِنـاظرِهِ إِذااســتَوَتْ عِنـدَهُ الأَنـوارُ والظُلَـمُ
سَــيَعْلَمُ الجَـمْعُ مِمَّـن ضَـمَّ مَجْلِسُـنا بِــأنَّنيخَـيْرُ مَـن تَسْـعَى بِـهِ قـدَمُ
أَنـا الَّـذي نَظَـرَ الأَعمَـى إلـى أَدَبي وأَســمَعَتْ كَلِمـاتي مَـن بِـهِ صَمَـمُ
أَنـامُ مِـلءَ جُـفُوفي عـن شَـوارِدِها ويَسْــهَرُالخَــلْقُ جَرَّاهـا ويَخـتَصِمُ
وَجَــاهِلٍ مَـدَّهُ فـي جَهلِـهِ ضَحِـكِي حَــتَّىأَتَتْــهُ يَــدٌ فَرَّاســةٌ وفَـمُ
إِذا رَأيــتَ نُيُــوبَ اللّيــثِ بـارِزَةً فَــلاتَظُنَّــنَ أَنَّ اللَيــثَ يَبْتَسِــمُ
ومُهجـةٍ مُهجـتي مِـن هَـمِّ صاحِبِهـا أَدرَكْتُهــا بِجَــوادٍ ظَهْــرُهُ حَــرَمُ
رِجـلاهُ فـي الـرَكضِ رِجْلٌ واليَدانِ يَدٌ وفِعْلُــهُمــا تُريــدُ الكَـفُّ والقَـدَمُ
ومُـرهَفٍ سِـرتُ بَيـنَ الجَحْـفَلَينِ بِـهِ حـتَّىضَـرَبْتُ ومَـوجُ المَـوتِ يَلْتَطِمُ
الخَــيْلُ واللّيــلُ والبَيـداءُ تَعـرِفُني والسَـيفُ والـرُمْحُ والقِرطـاسُ والقَلَـمُ
صَحِـبتُ فـي الفَلَـواتِ الوَحشَ مُنْفَرِدا حــتَّى تَعَجَّـبَ منَّـي القُـورُ والأَكَـمُ
يــا مَــن يَعِـزُّ عَلَينـا أن نُفـارِقَهم وَجداننــا كُـلَّ شَـيءٍ بَعـدَكُمْ عَـدَمُ
مــا كــانَ أَخلَقَنــا مِنكُـم بِتَكرِمـة لَــو أَنأَمــرَكُمُ مِــن أَمرِنـا أَمَـمُ
إِن كــانَ سَــرَّكُمُ مـا قـالَ حاسِـدُنا فَمــالِجُــرْحٍ إِذا أَرضــاكُمُ أَلَــمُ
وبَينَنــا لَــو رَعَيْتُــمْ ذاكَ مَعرِفـةٌ إِنَّالمَعـارِفَ فـي أَهـلِ النُهَـى ذِمَـمُ
كَــم تَطلُبُــونَ لَنـا عَيبـاً فيُعجِـزُكم ويَكــرَهُ اللــه مـا تـأْتُونَ والكَـرَمُ
مـا أَبعَـدَ العَيْـبَ والنُقصانَ من شَرَفي أَنــاالثُرَيَّــا وَذانِ الشَـيبُ والهَـرَمُ
لَيـتَ الغَمـامَ الـذي عِنـدِي صَواعِقُـهُ يُــزِيلُهُنَّ إلــى مَــن عِنـدَه الـدِيَمُ
أَرَى النَــوَى يَقْتَضِينـي كُـلَّ مَرْحَلـةٍ لا تَســتَقِلُّبِهــا الوَخَّــادةُ الرُسُـمُ
لَئِــن تَـرَكْنَ ضُمَـيراً عـن مَيامِنِنـا لَيَحْـــدُثَنَّلِمَــنْ ودَّعْتُهُــمْ نَــدَمُ
إذا تَرَحَّــلْتَ عـن قَـومٍ وقـد قَـدَروا أَن لاتُفـــارِقَهم فــالراحِلُونَ هُــمُ
شَــرُّ البِـلادِ مَكـانٌ لا صَـديقَ بـهِ وشَـرُّ مـايَكْسِـبُ الإِنسـانُ مـا يَصِمُ
وشَــرُّ مـا قَنَصَتْـهُ راحَـتي قَنَـصٌ شُــهْبُالـبُزاةِ سَـواءٌ فيـهِ والرَخَـم
بــأَيَّ لَفْــظٍ تَقُـولُ الشِـعْرَ زِعْنِفـةٌ تجُــوزْعِنـدَكَ لا عُـرْبٌ وِلا عَجَـمُ
هـــذا عِتـــابكَ إِلاَّ أَنَّــهُ مِقَــةٌ قــد ضُمِّــنَالــدُرَّ إِلاَّ أَنَّـهُ كَـلِمُ
ثانياً : التحليل الأدبي
هذه القصيدة من إحدى سيفيات المتنبي , تناولت عتاباً رقيقاً من الشاعر لسيف الدولة الحمداني الذي جفاه بسبب ما سعى به الوشاة والحاقدون , كما تناولت افتخار الشاعر بنفسه , وهذه الأمور مهمة للشاعر فقط , وتقتصر أهميتها بالنسبة للآخرين على التعرف على أسلوب الشاعر , وكيف استطاع أن يصور تصويراً بليغاً مشاعره وأحاسيسه , بالإضافة إلى بعض القيم النبيلة التي وردت في القصيدة . وهي بذلك تجلّي من خلال بنائها موقف الإنسان المرهف من نموذجه ومثله الأعلى , كما تكشف لغتها عن توترات هذه النفس , وأبعاد اتحادها بهذا المثل الأعلى أو مفارقتها له .
وتبدأ القصيدة بداية مؤثرة تصور حرارة قلب الشاعر ولوعته لما أصاب العلاقة بينه وبين سيف الدولة , وذلك كما يبدو حتى يؤثر في سيف الدولة لعله يعود عن جفوته للشاعر , ثم ينتقل إلى الإقناع العقلي بعد الإقناع العاطفي , فالشاعر لا يطلب سوى العدل في المعاملة وعدم الاغترار بالمظاهر , ولذلك فهو يغلي بركاناً بسبب فتور علاقة سيف الدولة به حتى وإن بدا غير مكترث بذلك .
وعندما يصل الشاعر إلى هذه النقطة يبدأ في الفخر بنفسه وشجاعته وشاعريته حتى لا يظن سيف الدولة أنه إنما يطلب مطامح تافهة , ولكن ما يحركه إنما هو مشاعره الصادقة نحو سيف الدولة .
ويسهب الشاعر في هذا الفخر , فشعره قد أثر في الأعمى والأصم , فما بال البصير والسميع ؟ حتى إنه يقول أبياتاً من الشعر وينام نوماً هادئاً ويترك الآخرين يتجادلون في فهم معناها .
وهو قد أصبح من الشهرة بمكان حتى إن الجمادات والحيوانات تعرفه حق المعرفة , وهو في المعارك لا يهاب الموت بل ينغمس بين صفوف الأعداء يقتل فيهم يميناً وشمالاً .
وبعد كل ذلك الفخر يعود الشاعر إلى العتاب الذي بدأ به قصيدته , ولكنه يبدأ باستفهام استنكاري , فهو يستهجن كيف رضي سيف الدولة بفراق الشاعر في حين أن هذا الفراق قد عزّ عليه كثيراً وجعله كالعدم . ولكن إن كان يرضيه ما سعى به الواشون فلا بأس لأن رضا سيف الدولة سيبرئ جراحات الشاعر , وإن كانت هذه الجراحات عميقة مؤثرة , فالشاعر كالثريا لم يتعود أن يقاطعه أحد , وهو يرى أن البلاد إن خلت من صديق فهي شر البلاد .
ومقصد المتنبي من ذلك كله أن يؤثر في سيف الدولة ويستميل قلبه حتى يعيد ما انقطع من علاقة حميمة بينهما .
وأخيراً يبين الشاعر أن كل ما قاله في قصيدته إنما هو عتاب بلغة قوية كالجواهر , وليس تقريعًا أو ذمًا لسيف الدولة , حتى لا يستغل الواشون ذلك مرة أخرى , ويزيدون في السعاية بينهما .
ومن كل ذلك نرى أن قصيدة الرحيل محكمة السبك , وأفكارها في منتهى الترابط والتسلسل , وكل بيت جاء في مكانه المناسب .
وتتسم قصيدة الرحيل بالعمق وعدم السطحية , إذ تشتمل على جوانب عاطفية وفكرية عديدة وعميقة , فقلبه يتحرّق شوقاً لسيف الدولة , وهو الذي تعرفه الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم , وهو الذي لا يهاب القتال , يسير بين الجيشين يضرب في الأعداء لا يهاب الموت الذي هو كالبحر متلاطم الأمواج , وهو الثريا شرفاً وعزة , وهو الذي عتابه لسيف الدولة دُرَرٌ وجواهر … إلى آخر هذه المعاني العميقة التي يصورها الشاعر تصوير في قوالب مؤثرة .
وتدعو القصيدة بطريقة غير مباشرة إلى العديد من المعاني السامية كالمحافظة على ودّ الأصدقاء حتى وإن جفوا , والعدل في معاملة الجميع , وعدم الاغترار بالمظاهر , والعزة والكرامة والشجاعة في قتال الأعداء …
وتتناول القصيدة أساساً العتاب والفخر , وهما موضوعان ليسا من الموضوعات الشاملة أو العامة التي تهم كل إنسان في كل زمان ومكان , إنما قد تعرض للإنسان في لحظات معينة .
أما المعاني السامية التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة فهي اكثر شمولية وعمومية من العتاب والفخر , وترد في القصيدة الكثير من المعاني التي – فيما أعتقد – لم يسبقه إليها أحد والتي تعبر عن أصالة وجدَّة في شعر المتنبي , ومنها :
= تصويره سيف الدولة بأنه القاضي والخصم والقضية المطروحة للمداولة في المحكمة .
= وتصويره الأعمى وقد امتلك حاسة خاصة استطاع بواسطتها رؤية شعر المتنبي .
= وتصويره الأصم وقد امتلك وسيلة ما , استطاع بواسطتها سماع شعر المتنبي .
= وتصويره الحصان في عدْوه أثناء المعركة بأن أصبحت له رجل واحدة ويد واحدة نظراً لتلاصق رجليه وتلاصق يديه , أراد من ذلك أن يكمل رسم الصورة الجميلة لجواد المثالي إذ يصفه بأنه حينما يركض فإنه يقفز فيمد يديه الاثنتين ويتبعهما برجليه الاثنتين فتبدو اليدان وكأنهما يد واحدة والرجلان رجل واحدة , وهذا بعكس ما في الخبب إذ يحرك الحصان يده اليمنى مع رجله اليسرى , واليد اليسرى مع الرجل اليمنى , و ( فعله ) أي حركاته فإنها حسب ما تشده يدي من العنان فينعطف يميناً أو شمالاً أو يتوقف أو أرخي له فيسرع إنها صورة ناصعة لجواد مثالي يركض على ظهره فارس مثالي , وهو تدليل على فروسيته بعد أن قام بالتدليل على مكانته الأدبية .
= وتصويره الموت ببحر متلاطم الأمواج لا يفلت منه أحد في أرض المعركة .
= وتصويره عتابه لسيف الدولة بالدّرر والجواهر .
وتسيطر على الشاعر هنا عاطفة الفخر والاعتداد بالنفس , بالإضافة إلى عاطفة ألم وحزن على فتور العلاقة بينه وبين سيف الدولة , وكلتاهما عاطفتان صادقتان تعبران تعبيراً حقيقياً عمّا يجيش في نفس الشاعر , وهما عاطفتان قويتان ثابتتان مؤثرتان في كل من يقرأ قصيدة الرحيل , ومهما يكن من أمر فإن مقاطعة سيف الدولة وجفائه للمتنبي وصدوده عنه قد أشعلت كيان الشاعر ووجدانه , ومن هنا كانت التجربة ملموسة بوضوح وصدق في تأزم العلاقة بينهما .
وتعد الصورة من أهم الوسائل الفنية التي اتكأ عليها الشاعر المتنبي , حيث تمكن من نقل أحاسيسه والتعبير عن معانيه وانفعالاته بقصد التأثير في غيره , تتراءى لنا في :
= تخيل الجمادات والحيوانات وقد تحولت أشخاصاً يصادقون الشاعر , تبادله العواطف والأحاسيس , ويعرفونه حق المعرفة ( الخيل والليل …تعرفني ) . ولا شك أن تشخيص الصورة الشعرية يكسب الفكرة أو المعنى تمكيناً في نفس المتلقي , وحضوراً في ذهنه , كما يضفي على القصيدة طاقة حيوية ويجعلها أكثر قدرة على التأثير والإثارة وتحريك الوجدان ولاشك أن شاعريته هنا تتأكدفهذه الصورة تمثل قمة الاعتداد بالنفس وقمة التوتر بين الشاعر ومحبوبه أو بين الأنا والغير , ولعل لجوءه إلى الموقف الفخري هنا تعويض نفسي عن واقع أليم يشهد تصدع العلاقة بينهما .
= وفي تخيّل الكلام ( عتاب الشاعر لسيف الدولة ) وقد تحوَّل إلى دُرّ وجواهر تلمع فتأخذ الأبصار , وهذا أمر يسرّ النفس ولا يسيء إليها بشيء .
= وفي قوله : ( واحَرَّ قلباه ) يظهر الجانب الإيجابي الإنساني له والمجسد في الحب الذي تتسع لغته لأعمق المشاعر , حيث شبه الشوق في قلبه لسيف الدولة بالشيء الحار , وإذا كان القلب هو مناط الحب فإن علاقة التقابل منذ بداية القصيدة لتبرز موقف الطرف الآخر وهو سيف الدولة في إيجاز شديد إنه بارد القلب , فهو يظهر الجانب السلبي لسيف الدولة كما في قوله : ( ممن قلبه شبم ) , مما شكل صراعاً نفسياً محورياً دارت عليه رحى القصيدة كلها .
= وفي قوله : ( ما لي أكتّم حبًا قد برى جسدي ) يشبه حبه لسيف الدولة بمادة مذيبة أذابت جسمه فأصبح نحيلاً . ومن ثم كان أمراً طبيعياً أن يحترق قلبه حباً وهياماً , وأن يعتل جسمه
ولذا يتعجب فكأنه يريد أن يقول : ما لي لا أبوح بحب سيف الدولة الذي قد برى جسدي وأسقمه , والناس يدّعون أنهم يحبونه , وهم على خلاف ما يظهرون , وليس من العدل أن يقابل هذا الحب بالإعراض والصمت .
= وفي قوله : ( فيك الخصام وأنت الخصم والحكم ) يشبّه ما بينه وبين سيف الدولة بما يجري في قاعة المحكمة , ولكن الدعوى في تلك المحكمة خاصة بسيف الدولة الذي هو أيضاً الخصم والقاضي في هذه القضية . ولذلك فإن الإنصاف فيها مستبعد , والحق أنه قد باء بظلمه له برغم كونه أعدل الناس , ونجحت الوشاية في صرفه عنه برغم كونه هو الخصم والحكم , وأخطأ في حسابه معه عندما لم يشمله بعدله , فأوشك أن يتصور الورم شحماً كما في قوله :
( أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم ) ففيه تشبيه ضمني حيث شبه نفسه بإنسان قد ورم جسمه فظنه البعض سميناً , وكذلك هو في ظاهره أمام الناس معافى , ولكنه في الحقيقة يعاني من فتور العلاقة بينه وبين سيف الدولة الحمداني , ويمكن أن نقول إنه شبه من يخطئ في رأيه كمن يرى الورم فيحسبه شحماً وصحة .
= وفي قوله : وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
يشبه الشاعر سيف الدولة بالأعمى الذي لا يفرق بين النور والظلمة , فهو لا يميز بين أحوال الشاعر في حال معاناته وبينها في حالة اطمئنانه فلا فائدة من بصره , وهو عتب شديد يصل بالشاعر إلى موقف الدفاع عن نفسه في مواجهة انصراف محبوبه عنه .
يقول الغذامي في كتابه النقد الثقافي ص173: ” ممدوحه – يقصد سيف الدولة – مصاب بعمى الألوان مذ كان لا يميز بين الشحم والورم , وتتساوى عنده الأنوار والظلم ؛ مما يعني أنه لم ينتفع بعينيه ولا عقله , وصار لا يميز ولا يتقن الحكم ” .
وهناك من يذهب إلى أن المتنبي قال ذلك لا كراهة في سيف الدولة , إنما لتنبيهه لما يدور حوله من تلك الباطنة الفاسدة في رأيه فيستطيع التمييز بين الحق والباطل وبين النور والظلمة وبين الشحم والورم وبين الشاعر والمتشاعر
وتكشف استعارته الأنوار للعلم والظلم للجهل بالفرق الكبير والمتمايز بين الجاهل والأحمق والعالم والعاقل والمتذوق والمسلوب . كما في تشبيه قوة شعره وفصاحته بأشعة من نوع خاص تستطيع أن تنفذ إلى عين الأعمى فيرى ويبصر ما كتبه من شعر , أو كما في تشبيه شعره بصوت قوي يستطيع أن ينفذ إلى آذان الصم فيسمعون هذا الصوت لأن شعره كالدر وأنت تعرف هذا أيها الأمير . ولذلك تكشف الاستعارة التمثيلية في قوله :
وجاهل مدّه في جهله ضحكي حتى أتته يدٌّ فرّاسة وفم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنّنّ أن الليث يبتسم
عن بطشه وعصفه بمن يجهل مقدرته حيث يستحيل الضحك إلى افتراس والابتسام تكشيراً عن الأنياب , فقد شبه حاله التي تبدو طبيعية سعيدة في حين أنه يعاني ويكابد بحال أسد يبرز أنيابه فيبدو أنه يضحك ويبتسم , فالمظهر في كلا الحالين لا يدل على المخبر والحقيقة . ومنه قوله :
ومهجة مهجتي من همّ صاحبها أدركتها بجواد ظهره حرم
فهو يشبه مهجته من شدة معاناتها وهم صاحبها بناقة قد غادرت المكان بسرعة فائقة فلم يستطع إدراكها إلا بجواد سريع , رجليه رجل واحدة ويديه يد واحدة , مما يوحي باستواء وقع قوائمه في ركضه وسرعته , كما تصبح إرادة المتنبي وقدمه دون فعله موجهة لاستجابات هذا الجواد الكريم , يقول :
رجلاه في الركض رجل واليدان يد وفعله ما تريد الكف والقدم
وانظر إلى صورة الموت في المعركة كالموج العظيم قد تلاطمت أمواجه ( حتى ضربت وموج الموت يلتطم ) . وتتأمل قوله :
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
هنا تبرز الروعة استعذاب العاشق لألم الحبيب الذي منحه حرية التعبير دونما شرط , فهو يريد أن يقول : عن كان ما قاله الحاسد لنا , واختلقه الواشي بيننا مرضياً لكم فنحن راضون عن ذلك , وإن الجرح إذا أرضاكم – مع شدة وجعه – لا نجد له ألماً ميلاً إلى ما يسركم وحرصاً على رضاكم , فرضا سيف الدولة عنه دواء شاف يجعل جراحاته غير مؤلمة حتى وإن كان سبب رضا سيف الدولة سروره بما قال الحاسدون وهذه الصورة تجلي لنا الارتباط النفسي المتين بينهما وأن ولاءه الدفين والمتين لازال قائما له مهما تباعدت الصلات وفقد الأمل .
ومع هذا فلا زال يتحدى أن يجد في مسلكه عيباً أو خطأ متخذا من الطبيعة ما يشكل هذا الواقع إذ يؤكد أنه الثريا السامية في السماء العالية التي لا يطالها أحد غيره شرفاً وعزاً ومكانة وبذلك يستحيل أن يصيبها الشيب والهرم رامزة لتعاليه , ومجسدة لبراءة شرفه من العيب والنقصان يقول :
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ويعود مرة أخرى ليؤكد أن معاتبته لسيف الدولة نوعاً من المحبة الشديدة , مشبهاً ما تضمنه هذا العتاب بالدر واللآلى الثمينة , وهكذا يتجلى حبه لسيف الدولة وأنه ولاءه لازال ثابتاً مهما تراءت صور الاعتداد بالنفس أمام هذا النموذج والمثل الأعلى يقول :
هذا عتابك إلا أنه مقة قد ضُمّن الدّرَّ إلا أنه كلمٌ
وإذا كنا قد تحدثنا عن الصورة فإن قسيمتها الكناية كان لها حضورها المتميز فقد كنى عن سيف الدولة بغرته , والغرة هي الجبين والوجه عامة , وهو أفضل ما في المرء , واستعارها لسيف الدولة هنا لجلالته وعلو مكانته .
ولما سمع سيف الدولة قوله :
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
قال لو مدحني بذلك لشاطرته ملكي ؛ إعجابا بما تضمنه البيت من كنايات متعددة وصفات رائعة جمعها في بيت واحد , جمع عالمه الحياتي والشعري , فالخيل كناية عن الفروسية , والليل كناية عن الشجاعة , والبيداء كناية عن الرجولة وتحمل الشظف , والسيف كناية عن القدرة على المواجهة والقتال , والقرطاس والقلم كناية عن الثقافة والعلم والأدب . إذاً نحن إزاء فارس شجاع ومقاتل متمرس وشاعر ومثقف وأديب قد عرفته تلك الصفات وألفته ألفة طويلة .
يقول صلاح فضل عن هذا البيت : ” البنية الشعرية لهذا البيت نموذجية ؛ لأنه يكاد وهو جزء من قصيدة طويلة يشكل نصاً مكتملاً ؛ إذ يحقق الشرط الأساسي للنص , وهو التحديد وتراتب العناصر والاكتمال الدلالي التام ؛ فلسنا بحاجة لما قبله وما بعده وما يكمن فيه من عناصر محددة قد تم تنظيمها حول بؤرة مركزية حتى غدت بنية متماسكة قوية ” وهو بلا شك قد تفرد بهذا البيت وتميز ببلاغته وإيجازه وقوة تعبيره على بيت أبي تمام الذي يقول فيه :
البيد والعيس والليل التّمام معاً ثلاثة أبداً يُقرَنَّ في قرن
وفي قوله : ( قد برى جسدي ) كناية عن المعاناة في الحب , و( الأعمى ) كناية عن شخص لا يميز , ولا يرى الجيد من القصائد ( كلماتي ) المدوية والذائعة , حتى أن من به صمم قد سمعها ويسمعها , والصمم هنا أي الجاهل مسلوب الذوق .
وأحدث الطباق والتقابل تصدعاً كبيراً بين الشاعر ونموذجه مبرزاً أوجه التفارق والتخالف بينهما , ولكن دون أن ينتقص من أبعاد بطله , عبّر من خلاله عن كثير من أفكاره وأحاسيسه وما انتابه من مشاعر وحالات وجدانية ونفسية وهو يحث خطاه المتثاقلة إلى مصيره يقول :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
وفي هذا القول تركيز يحمل معه عتباً شديداً إذ لم يحقق للشاعر ما يبتغيه . ويتمنى المتنبي تغيير واقعه بحيث يناله بر محبوبه ويزول عنه صدوده لمن يتمتعون بهذا البر والحب الذي حرم منه , اقرأ إن شئت :
ما أبعد العي والنقصان عن شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ليت الغمام الذي عندي صواعقه يزيلهن إلى من عنده الديم
والمتنبي لا يضع نفسه في مقابل سيف الدولة فحسب , بل في مقابل الخلق جميعاً , يومئ إلى هذا الطباق في قوله : أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
وتجسد صورة التقابل بين النسور القوية والرخم مكانته العظيمة عندما يرفض أن يشاركه اللئام فيها عند سيف الدولة , تلك المكانة التي حققها بشاعريته وفروسيته حتى وصفها وكأنه اقتنصها من الحياة , لذلك يحاول تحطيم من يطاوله من الشعراء في هذه المكانة عند سيف الدولة , يقول : وشر ما قنصته راحتي قنَصٌ شهب البزاة سواءٌ والرَخَم
كما يزري بمكانته ومقدرتهم التقابل بين العرب والعجم من حيث عدم فهمهم لما يقوله هؤلاء الطفيليون المتطاولون فاسدو الذوق من شعر , ويبلغ التهوين من شأنهم مداه بتصويرهم وكأنهم ( زعنفة ) أي لئام سقطة كما أومأ إلى ذلك تنكير المفردة .
وأحدث جناس الاشتقاق نغماً موسيقياً شيقاً حزيناً لأنه يقدم على تشقيق اللفظ الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتجربته من مثل ( الخصام والخصم – موج موت – الخيل والليل – هزمهم انهزموا –قلباه قلبه – وترحلت والراحلون … )
واستغل التصريع لما يضيفه على القصيدة من طلاوة , ولما له من موقع من النفس لأنه يحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصل إليها , كما أنه يوفر كثافة موسيقية مؤثرة يقول في أول القصيدة : واحرّ قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ولا يخفى ما يضيفه التقسيم ومراعاة النظير من إيقاع موسيقي رائع سواء أكان في التماثل الصوتي أو توازن الكلمات المتتابعة وتناظرها أعطت قيمة جديدة لشعر المتنبي يقول :
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وأسهمت الألفاظ في التعبير عن معاناته , ففي البيت الأول الذي يصور الشاعر فيه مدى لوعته على جفوة سيف الدولة له استخدم كلمة ( واحرّ ) الدالة على التفجع . وفي البيت الثاني استخدم كلمة ( أكتّم ) بتشديد التاء ولم يقل ( أكتم ) بالتخفيف ليصور حرصه ومبالغته في كتم هذا الأمر الذي لا يقوى على كتمانه وهو حبه لسيف الدولة .
ونراه يقول ( نظر الأعمى ) ولم يقل ( نظر القارئ ) ليبين مدى تأثير شعره في المتلقين لدرجة أن الأعمى يستطيع رؤيته من لمعانه وبريقه , ونراه يستخدم كلمة ( لا تظنن ) زيادة في التوكيد على النهي عن الانخداع بالمظاهر .
وقد قدمنا أن قصيدة الرحيل تناولت غرضين شعريين هما العتاب والفخر , فجاءت ألفاظ القصيدة متناغمة مع هذين الغرضين , خذ مثلاً في العتاب استخدم الشاعر ألفاظاً مثل : ( واحرّ قلباه –سقم – أعدل – صديق – عتابك ..) .
وفي الفخر استخدم ألفاظاً بصيغة المتكلم تارة مثلاً : ( أدبي – أنا – كلماتي – أنام – جفوني –مهجتي – أدركتها – سرت – ضربت – تعرفني –شرفي ) أو ضمائر الغياب والخطاب ( هم – كم –نفارقهم – منكم – أرضاكم – بعدكم – نفارقهم …)
وعلى كل حال فقد وفق في استخدام الدلالات الموحية نستكشفها من خلال قوله :
= ( واحر قلباه ) توحي باللهيب وشوقه الشديد لمحبوبه سيف الدولة .
= ( ممن قلبه شبم ) دلالة على عدم شوق سيف الدولة للمتنبي , وعلى فتوره وعدم اهتمامه
= ( ما لي أكتّم ) دلالة على حرصه على كتمان الأمر والتشديد في هذا الأمر .
= ( يا أعدل الناس إلا في معاملتي ) استهجان من الشاعر لسلوك سيف الدولة الذي يعامل الشاعر معاملة تختلف تماماً عن معاملته لجميع الناس بالعدل والإنصاف .
= ( أنت الخصم والحكم ) دلالة على يأسه من أن يقوم سيف الدولة بإنصافه .
= ( إذا استوت عنده الأنوار والظلم ) دلالة على أنه أعمى لا يفرق بين النور والظلام .
= ( أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ) دلالة على جودة شعره المكتوب , و( أسمعت كلماتي من به صمم ) دلالة على جودة شعره المقروء .
= ( ويسهر الخلق جرّاها ويختصم ) دلالة على عمق معاني قصائده , وعدم الوصول إلى هذه المعاني بسهولة .
= ( فلا تظنن أن الليث يبتسم ) دلالة على وجوب عدم الانخداع بالمظاهر .
=( أدركتها بجواد ظهره حرم ) دلالة على سرعة جواده وفروسيته .
= ( رجلاه في الركض رجل واليدان يد ) دلالة على سرعة .
= ( ومرهف سرت بين الجحفلين به ) دلالة على شجاعته .
= ( تعرفني ) دلالة على شهرته التي طبّقت الآفاق .
= ( قد ضمن الدر إلا أنه كلم ) دلالة على فصاحته وبلاغة كلامه .
أما تراكيب القصيدة فهي تراكيب بليغة لا يتعثر فيها اللسان ولا الذوق , ولا تقع فيها على تنافر في الألفاظ أو غموض أو مخالفة لأقيسة اللغة , وقد جاءت كثير من التراكيب معبرة تعبيراً صادقاً عن عواطف الشاعر وانفعالاته مثل : ( واحر قلباه –قلبه شبم – مالي أكتم – فيك الخصام وأنت الخصم والحكم – نظر الأعمى …) .
وقد أكثر من التراكيب التي تفيد الاحتراس والدقة في تحديد المقصود من مثل : ( عنده ) في البيت الأول ليبين أن جسمه وحاله ليستا في حالة سقم في جميع الأحوال إنما فقط عند سيف الدولة . وقوله : ( منك ) في البيت الثالث عشر فهو يريد أن يلفت نظر سيف الدولة دون غيره إلى هذا الأمر وهو عدم الاغترار بالمظاهر . و ( عنده ) في البيت الرابع عشر فالأنوار والظلم لا تستوي إلا عند الأعمى , وأما في الحقيقة فهما غير مستويين .
وفي قوله : ( في الركض ) في البيت الحادي والعشرين احتراساً من أن يظن أحد أن حصان الشاعر برجل واحدة , إنما يظهر في الركض فقط لانضمام الرجلين وتلاصقهما وهذا لا يكون إلا في شدة السرعة .
واعتمد في التنفيس عن تجربته على توظيف بعض الظواهر والتراكيب البلاغية كتكرار كلمة ( الحب ) في الأبيات الثلاثة الأولى أربع مرات جاءت اثنتان منها نكرتين توحيان بقوة هذا الحب بينما الأخريان رد فعل يضاعف من إحساس المتلقي بتفرد هذه العلاقة .
كما أصبحت كلمة ( حب ) نفسها لفظة محورية ذات مصاحبات لغوية تكشف عن عشق المتنبي لصاحبه ( حالي عنده سقم – أكتم حباً – تدعي حب سيف الدولة الأمم – يجمعنا لغرته – ليت أنا بقدر الحب نقتسم ) ذلك العشق المتميز الذي يجعله التقديم في التراكيب السابقة مقصوراً على سيف الدولة فيتجلى تفرد هذه العلاقة .
وامتازت هذه القصيدة بتنوع الأساليب وتلونها يتراءى لنا من خلال أسلوب القصر وطرقه بشكل مكثف ليبين مزيته الاختصاصية سواء الشعرية أو المكانة المرموقة عند الممدوح .
ويلفت الاستفهام في قوله : ( مالي أكتم …) إلى التعجب من حاله , ويسهم النداء في كشف تجربته ( يا أعدل الناس ) للعتاب , وأعدل اسم تفضيل يوحي بتعظيم سيف الدولة .
ويعبر الاستثناء عن شدة المعاناة وصدق التجربة ( إلا في معاملتي ) , ويشدنا أسلوب الندبة في قوله : ( واحرّ قلباه ) إلى الحزن والتحسر . ونلتمس الأساليب الشرطية في البيت الثالث والرابع عشر والتاسع عشر , والتوكيد في ( قد ضمن ) والتعجب في قوله : ( ما أبعد ) والنفي في قوله : ( لا صديق به ) .
ويحضر الحيوان في القصيدة من خلال ( الخيل سواء كانت اللفظة مقرونة بصفة أو عارية منها –والليث المرتبطة صفاته بالشاعر المقرون بصفات الافتراس – والناقة بسيرها الوخادة والرسم – الرخم – شهب البزاة ) .
وللأماكن حضورها القاسي في خياله ومعاناته ( الأرض – البيداء – الفوات – القور – الأكم – البلاد ) وكلها تتضمن دلالة سلبية انطلاقاً من معناها المعجمي , إلا أن الشاعر يستغل هذه السلبية بذكاء لتأكيد ذاته فالبيداء تعرفه , وهو يصحب الوحش منفرداً في الفلوات , فاستراتيجية الشاعر واضحة في توظيف مكونات طبيعية موغلة في السلبية , ولأنها كذلك يوظفها لرسم صورة إيجابية عن ذاته .
وفي قوله : ( رحل ) تصوير لموقف المقيم والمفارق ليصبح القادر على الفراق راحلاً برغم إقامته وهو سيف الدولة , والراحل المضطر إلى ذلك مقيماً برغم رحيله وهو المتنبي , ويشي التضعيف في ( ترحلت ) عن قسوة المفارقة وصعوبتها , ويوظف كلمة ( شر ) في قوله :
شر البلاد مكان لا صديق به وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
بتقديمها لتعبر عن أثر رحيله في علاقته بسيف الدولة , فتتكرر ثلاث مرات في بيتين متتاليين لتصوير تعاسة المكان الذي يجد فيه الإنسان نفسه بلا صديق إذ لم يحافظ عليه , وقد كانت المحافظة في مقدوره , ثم لإبراز مدى السوء والشر في ارتكاب الإنسان لما يعيبه ويذله , وأخيراً تكشف اللفظة نفسها عن رفض الشاعر الشديد لواقعه إذ لم ينفرد بمكانته عند سيف الدولة كما ألف واعتاد . ويرد المطر من خلال ( الغمام والديم ) يقول :
ليت الغمام الذي عندي صواعقه يزيلهن إلى من عنده الديم
فالغمام والديم وحدتان معجميتان تتضمنان معنًى إيجابياً على المستوى المعجمي الصرفي إلا أن الشاعر يوظفهما للتعبير عن معنى سلبي , فينسب الغمام إلى الصواعق للدلالة على الأذى
الذي يلحقه من طرف الممدوح وهكذا تؤذن هذه المرحلة بقرب افتراقهما .
ويحيل إلى عالم الأشياء ( الحرب ويشكل الرمح والسيف , والكتابة وتمثل القرطاس والقلم ) ويستعمل السيف كوسيلة لتأكيد ذاته في بنية ( الفخر أو الهجاء المبطن ) على المستوى الحربي لكن في إطار محدود وفردي , ويمكن التمييز بين مستويين في توظيفه للسيف :
المستوى الأول : يمنح السيف صفات معينة ( مرهف – الضرب – حاد – قاطع )
المستوى الثاني : ترد لفظتا السيف والرمح بدون صفات تحددهما , ويوظفان للشهادة على بطولة المتنبي وفروسيته في الحرب , ولا يتوافران على أي امتياز ذاتي خاص بهما .
ويمكن القول بصفة عامة إن صورة السيف في القصيدة من خلال بنيتي الذات والمدح إيجابية ولعلها أكثر وضوحاً في بنية المدح لأن الحرب فعلية وذات قيمة موضوعية , يضاف إلى ذلك الأوصاف التي اضفاها الشاعر على السيف ( سيوف الهند – السيوف دم – كبيض الهند )
وجاءت الأشياء التي تنتمي إلى عالم الكتابة عارية من الصفات إلا أنه وظفها توظيفاً رائعاً وسليماً ؛ لتشهد على تفوقه على مستوى الشاعرية كما شهد السيف والرمح على بطولته الحربية .
والكتابة والحرب يتقاسمانها فالممدوح هو الذي يمتلك سلطة سياسية فعلية تؤهله لخوض الحروب الحقيقية , والانتشاء بظفرها ونصرها وكل إنجازاتها الإيجابية .
والشاعر يمتلك سلطة أدبية أهلته لتحقيق شهرة أصبحت مصدر حسد الحساد وكيد الكائدين , إلا أن المتنبي مسكون بهاجس تملّك السلطتين معاً , وهذه المعادلة الصعبة والمأساوية في حياته وشعره استطاع أن يعكسها ويعانيها بصدق وجرأة نفسية .
ورغم وعيه باستحالة تملّكه السلطة السياسية التي تحقق له بطولة حربية فإنه يصر على تملّك بطولة فردية في الحرب . والواقع يؤكد ذلك لأنه كان يشارك إلى جانب سيف الدولة في الحروب .
وتسري تفاعيل البحر البسيط الثمانية في تضاعيف القصيدة والذي طبيعته تتفق مع العتاب حيث تحمل كثيراً من الشجن والحزن المرير , ومن هنا فالقصيدة قطعة موسيقية حزينة مكثفة بدت لنا من البيت الأول في تأوه شاعرها الذي جذبنا إليها بقوة تأثيرها العنيف , فأحسن الشاعر المبدع المطبوع إيقاعها فينا , فجرت فينا مجرى الدم , وأحسن وقوعها في النص لتأتلف بمشاعرنا وأحاسيسنا في ثوب عزة وإباء وحرية وكرامة وحزن ……>

شاهد أيضاً

الكتب السماوية

بقلم / سميه محمد الكتب السماوية هي التي أنزلها الله من فوق سبع سموات على …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com