رمضانُ الذي يُشبه وجهَ أمي. بقلم الأستاذ : إبراهيم مضواح الألمعي

لم أكنْ أعرفُ أن هناك شيئاً اسمُه رمضان قبل تلك العشيةِ المختلفةِ، التي رأيتُ فيها أخوتي يُسارعونَ إلى إنجازِ أعمالِهم من الرَّعي، والسَّقي والحصاد، قبل الغروبِ بوقتٍ غير معهودٍ، إذ ما كان يقطع أعمالنا إلا أذانُ المغربِ، وربما تجاوزَ بعضُنا الأذان بقليلٍ أو كثيرٍ، لم أكنْ مُستقلاً في شيءٍ من تلك الأعمال، بل أتْبَعُ أخوتي وأصنعُ معهم ما أستطيعُ مما يصنعون، فَكُنَّا في المنزل قبلَ أن يُؤذَّنَ لصلاة المغربِ، وإذا الحركةُ في البيتِ على غير ما أعهد، فأُمي تُخرجُ الخبزَ من التنور، وأخواتي يُحَضِّرْنَ أطباقَ الطعامِ ولاتَ ساعةَ طعامٍ، وأبي يفترشُ حصيراً يستمعُ الراديو، مستنداً إلى جدارٍ في باحةِ مكشوفةٍ تُفْضي إلى مدخلِ البيت، ونصعدُ أخوتي وأنا فوقَ السَّطح لنستمعَ صوتَ جدي عندما يؤذن بصوته المجلجل، دون مُكَبِّرِ صوتٍ، وما سمعنا الأذانَ حتى قفز أخوتي وتبعتهم، ونحن نصرخُ، أذَّن.. أذَّن.. أذَّن..

ولم يكن لنا نحن الصغارَ على السُّفْرةِ موضع، فالطعامُ للصائمين فقط، فكان علينا أن نجلسَ خارجَ غرفةِ الطعام حتى إذا قام أبي وأخوتي الكبار للصلاة، انقضضنا نستبقُ على أماكنهم، ننعمُ بما بقي في الأطباق، التي لم أرَ أكثرها من قبل، فعرفتُ ليلتها (المكرونة) وكانت لها لذة؛ أين هي اليوم؟! وعرفتُ (الشوربة، والمهلبية، والسمبوسة)، وإن كانت معرفتي لها معرفةَ طعمٍ وشكلٍ، لا معرفةَ اسمٍ ولا وصفٍ، وما يهمني منها إلا مذاقُها، وجِدَّتُها، “ولكل جديدٍ لذةٌ ” ولم تنتهِ المدهشاتُ عند هذا؛ بل كان لنا نصيب أن نشربَ من شرابٍ أصفرَ ضاربٍ إلى الحُمْرَةِ، فملأنا منه ما بقي فارغاً من أجوافنا الصغيرة، له مذاقٌ أكادُ أجدُ حلاوتَه وأنا أكتبُ هذه السطورَ بعد مضي أكثر من ثلاثين سنة، وما أظُنَّ هذه الأطباق أو الشرابَ دخلت القريةَ قبل ذلك، فقد أحضرها لأول مرةٍ أخي الموظَّفُ في المدينة..
ولما صُلِيَت المغربُ كنا قد فَرِغْنا من هذه الأطباق الشهية، أو هي فَرِغَتْ منَّا! وأنصتَ الجميعُ إلى(حكايات أم حديجان) عبر المذياع، وأخي يؤكدُ أن شخصاً واحداً اسمه (عبدالعزيز الهزاع) يقومُ بأداء كُلِّ الأدوار، ويشرحُ لأبي بعضَ عباراتِه، فيضحكُ أبي فيضحكُ ونشاركه الضحك دون أن نفهمَ شيئاً من لهجتهِ الغريبة علينا..
هذا أولُ عهدي برمضان، وما جاءَ رمضانُ التالي حتى صرتُ أعرفُهُ وأرقِبُه، وقد أُضيفتْ إلى هذه المبهجاتِ بهجةُ (التلفزيون)، نُشاهدُ فيه الناسَ يتكلمون ويتحركون أمامنا، وإن لم نفهم أكثر الذي يقولون!!
كان باهراً برغم أنه يعرضُ الصورةَ بلونين فقط، ويعملُ على بطاريةِ السيارة، وربما انتهى شحنُ البطاريةِ أثناء عرض برنامج أو مسلسل، فيفوتنا مصدرُ الضوء ومتعةُ المشاهدةِ معاً، فلم يكن من الممكن أن يُضاء (الإتريك) لمجرد مشاهدة (التلفزيون)، فنتكوَّمُ حولَ (التلفزيون)، نستضيء بنورِهِ، ونستمتعُ بمشاهدته، حتى ينامَ أكثرُنا، أو تنتهي البطاريةُ، فننامُ والحسرةُ تملأ نفوسَنا.
وفي ذلك الرمضان عَرَفتُ صلاة التراويح، حيثُ كان يجتمعُ لها أهلُ القرية لا يتخلَّفُ منهم أحدٌ، فإذا صُليتْ قضينا ساعة أو نحوها عند أحدِهم، فلا ينتهي رمضانُ حتى ندخلَ كلَّ بيوتِ القرية، نقضي وقتاً من السَّمر يتخلى فيه الكبارُ عن بعض جدهم ووقارهم، فنسعدُ نحن الصغار لذلك غايةَ السعادة.
وفي رمضان التالي أصبح لدينا مولِّدٌ للكهرباء، و(تلفزيون) ملوَّنٌ، يُشغَّل قبل أذان المغرب، ولا تأتي العاشرةُ حتى يكون قد صدرَ أمرُ أبي بإطفائه، وحينما نتلكأ في الاستجابة، يقوم بذلك بنفسه، ونجني ثمرةَ عصيانِهِ عندما يوقظنا للسَّحُورِ، وفي هذا العامِ ارتبطَ المساء الرمضاني بمائدةِ إفطارٍ أخرى، غير التي كانتْ مصدرَ بهجةٍ منذُ سنواتٍ، أعني برنامجَ الشيخ علي الطنطاوي-رحمة الله عليه- الذي تُفْتَتحُ به أماسي سمرنا، أمام (التلفزيون) الملون الوحيد في القرية، وكنَّا نُنْصت له مجبرين بادئ الأمر، فمن يجرؤ على الكلام، وأبي يشاهد مائدة الطنطاوي، وسرعان ما أصبحنا مأخوذين بلغته الجميلة، ولكنته الخاصة، وسهولةِ الأفكارِ التي يطرحها، والحكاياتِ والذكرياتِ التي يسردُها، وما كنَّا نرى متحدثاً من الشيوخِ غيرَه، فهو الشيخُ الطلائعي التنويري الذي جاء في أوانِه..
وارتبطَ مساءُ رمضانَ في أذهاننا ببرنامج (الكاميرا الخفيِّة)، الذي كان يقدمه حينها الممثل (فؤاد المهندس) ومسابقةِ رمضانَ التي تُفتتح بمقطوعةٍ موسيقيةٍ شجية ما زالتْ رناتها في أذني، وقد جاءتني عبر رسالة جوال تهنئني بشهر رمضان لهذا العام، فهطلت الذكريات، وترقرقت الدموع..
وهكذا كان رمضاني تتوالدُ فيه المباهجُ عاماً بعد عام، والشملُ جميعٌ، أنعمُ فيه بأبوين هما وجهان للرحمة والحب، واللطف والرقة، وأخوةٍ وأخواتٍ وأطفالٍ وزوجةٍ، تجمعنا ظلالُ الوالدين الحبيبين، فلما تمَّ لي ذلك، صدق عليَّ قول الأول: “توقَّع زوالاً إذا قيل تمَّ” فإذا داعي الفراقِ يحومُ حولَنا، ليختارَ أغلى ما اجتمعتْ عليهِ قلوبُنا، وإذا رمضانُ يأتي، واليتمُ يُجَلِلُنا، نصومُ عن الطعام، ولا يصوم الحزنُ عن اقتياتِ قلوبِنا، وإذا نحن جميعاً في العراء، لا تُظَلِلُنا شجرةُ الخيرِ الوارفةُ التي عشنا في أكنافِها ما مضى من سِنيِّ حياتنا، ويأتي رمضانُ، ويغيبُ وجه أمي الطهور..
رمضانُ يا أماه أغبرُ ما توضأ من إنائـكْ
ظمآنُ يجترُّ الظَّـما ظمآنُ يَحْلُمُ بارتوائكْ
ويأتي رمضانُ في إثرِ رمضانَ، فتتجَدَّدُ الذكرياتُ، ويُنكأُ الجُرحُ، ويشغلني عن الاستمتاعِ بساعاتِ رمضاني، ذكرى رمضان الحياةِ والبهجةِ، والروحانيةِ، حين كان رمضاني يُشبهُ في عينيَّ وجهَ أُمي، ويشغلني الخوفُ من رمضان يأتي لا أجدُ فيه رمضانَ الأمسِ ولا رمضان اليومِ، فأين مني اليومَ رمضانُ الطفولةِ والصِّبا، الذي اجتمعتْ فيه معاني الجمالِ والجلالِ، والرضا والإخلاصِ، والطاعةِ والروحانيةِ، ووجهُ أمي؟! وهل حقاً تغيَّرَ رمضانُ، أم تغيرتُ أنا، أم أن رمضان هو رمضان، والذي غابَ براءةُ الطفولةِ والصِّبا، واجتماعُ الشَّمْلِ، وخَلْوَةُ البَالِ؟!

       بقلم الأستاذ :

إبراهيم مضواح الألمعي>

شاهد أيضاً

جمعية الثقافة والفنون ببيشة تحتفي باليوم العالمي للمسرح

صحيفة عسير – هياء آل ظافر : احتفلت جمعية الثقافة والفنون بمحافظة بيشة باليوم العالمي …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com