الـحــريــــة

أبو هشام5

‏ الحرية من أكثر المصطلحات خداعًا، وهي كما أصفها مصطلح منشوري‎‏. ‏
‏ مصطلح يستحضر في أحشائه فكرة الالتزام ولا يلغي الاعتبارات دينية أو أخلاقية أو ‏‏اجتماعية‎‏.. ‏
‏ تعبير فلسفي يشير بشكل أو بآخر إلى الرغبة في الاختيار والتصرف وفق شرعية ‏‏مكفولة، وليس هدمًا لاعتبارات الانضباط، أو انعتاقًا أرعن من المسئولية‎‏. ‏
‏ في الثقافة العربية نجد الوعي بالحرية يقوم على أن المسئولية جزء من قيمة الاختيار‎‏. ‏
‏ يجعل الإسلام الحرية الحق الأول الملازم للإنسان بأصل إنسانيته‎‏. ‏
‏ وهذا الحق يمنحه الحرية في الاختيار الأكبر بين الإيمان أو الكفر‎‏. ‏
‏ إذا كانت العبودية نقيضًا للحرية فإن هناك مصطلحات تقابلها على الاتجاه الآخر، مثل الإباحية، ‏‏والتحلل/ الانحلال، التمرد، التفلت/ الانفلات، وهي تفيد ممارسة ‏الاختيار دون مراعاة للقيم ‏‏الأخلاقية أو الضوابط العقلية والقانونية‎‏. ‏
‏ إذا كان القيد في الحرية ذاتيًّا وأخلاقيًّا، فإن قيد الإباحية كوني/ فيزيائيوعضوي/ بيولوجي‎‏. ‏
‏ الإباحيةالتفلتالانحلال هجاءٌ للإنسانية، وهدمٌ همجيٌّ لمصطلح الحرية‎‏. ‏
‎‏ ‏ ‏
الحرّية‎‏ ‏
وغواية الشعر.. غواية الكتابة‎‏: ‏
‎‏ يوصف الشعراء بأنهم أمراء البيان ، لما يتمتعون به من قدرة باهرة على تطويع اللغة ، هذه ‏‏القدرة تبلغ حدَّ السحر حين تنداح الكلمات إثر الكلمات لتحاصر القارئ بمنطقها فتقيم أمامه ‏عالماً ‏‏ينعم فيه أو يشقى به ، فإذا اضمحل سحر اللغة لم يجد القارئ أمامه سوى خليط من المشاعر ‏‏المتدافعة التي لا يستطيع وصفها إلاّ بأن يجتر حالة الشعر السابقة، أو حالة لغوية ‏مماثلة من ‏‏السحر الحلال‎‏ . ‏
يمكن أن نأخذ من الشعر الجمال وعذوبة اللغة وألق الإحساس ، ولكن نغوى بغوايته إذا جعلنا ‏‏منه مصدرا من مصادر الحقيقة ، حتى وإن نقل إلينا الصدق ، لأن لغة الشعر تسبح في ‏بحر ‏‏دلالي عائم تصعب محاكمته إلى المنطق الحكيم للغة ، الذي تؤسس عليه المعارف ، وتُتداول به ‏‏بين الناس‎‏ . ‏
وقد أتحفنا الشاعر/ الكاتب إبراهيم طالع الألمعي بمقالته / بقصيدته : “عن الحرية ” المنشورة ‏‏في جريدة الوطن السعودية (في يوم الإثنين: 29/ محرم / 1422هـ ص24) ، حيث ( أعدم ‏‏) ‏‏فيها ضمناً مصطلح ” الحرية ” دون محاكمة؟!! وذلك حين فَرَّغه من سلطته الفلسفية وزرع ‏فيه ‏معنى غريبا ، تنكره أول ما تنكره اللفظةُ نفسها ، فعل طالع كل ذلك ، وأكثر من ذلك ، ‏فكان ‏‏الخصم والحكم ، وشاهد الجرم الذي لم يقع ، ومنفذ الحكم‎‏ . ‏
يقول إبراهيم طالع الألمعي: ” كي أكون إنساناً فلست حراً!!! لا تتعب معي في البحث الأكاديمي ‏‏عن معنى الحرية !! وهل هي المقيدة بحرية الآخرين ، أم إنها مطلقة ؟؟ كن حراً في ‏فهمك ‏‏الحرية فستجد أنها أولاً وأخيراً قيد !! …. لماذا نكذب على أنفسنا بعلمنا واختيارنا ؟ أتجرأ على ‏‏الحضارة الإنسانية جمعاء متحدياً أن تثبت أن الحرية حقيقية …” كتب طالع ‏موضوعه بلغة ما ‏‏‏(تحت) الشعور ، أو بعبارة أقرب : بلغة الشعراء، فجاءت المقالة وإن كانت نثرا أقرب إلى منطق ‏‏الشعر ، أو هي : بالمصطلح الفارابي : ” قول شعري ” ولو تحقق ‏للمقالة عنصر الإيقاع لكانت ‏‏قصيدة تضاف إلى نتاج الشاعر لا فكره ، على الرغم من أنه لا يستغرب من شاعر يتنفس شعرًا ‏‏أن يبتلعه تيار الشعر‎‏ . ‏
وإذا تجاوزنا النبرة الغنائية في الموضوع الفلسفي (المتماهي شاعرية) إلى المنطق اللغوي ‏‏تحديدا وجدنا الشاعر يستخدم ألفاظه في سياق ثأثيري يراد له نقل المشاعر بهالاتها الهلامية؛ ‏‏‏كي تخلق عند المتلقي حالة وجدانية، وردة فعل عاطفية بالدرجة الأولى. لكنها لا تمنح القارئ أي ‏‏بعد معرفي مؤسس، يستطيع من خلاله أن ينشئ تصورًا ذهنياً سوى تلك الحالة التي ‏خلَّقتها ‏‏‏[باللام المشددة تليها قاف] المقالة / القصيدة‎‏ . ‏
لقد وقف شاعرنا نثرًا أمام لفظة الحرية كما يقف أمام البحر أو الفضاء ليبحث لهما عن تفسير ؛ ‏‏فلمَّا لم تكن ( الحرية ) شعراً : كانت كذباً على أنفسنا بعلمنا واختيارنا ، أو بوقاً لتطويع ‏البشر؟‎‏! ‏
اكتفى الشاعر بالعودة إلى ذاته ليمتحها : التجربة ، والقيمة، والمعنى , و لـيمحضها : الحكم ‏‏بأحقية البقاء ، أو حتمية الفناء : جفافاً لا رِيًّا ، وجوعًا لا شبعاً‎‏ … ‏
فهم شاعرنا ” المصطلح ” بالمطلق ، فرده بالمطلق ، ثم تحدى الحضارات بالمطلق ، كَيَّفَ ( ‏‏بتضعيف الياء مع فتحها ) الشاعر المعنى كما يشاء ، وساقه أرضًا بلا سماء . ولا يرفع ‏مسغبة ‏‏المصطلح إلا وصل جذوره بتاريخه‎‏ .. ‏
هل من الحكمة أن نشرط على الصائغ أن يبيعنا سبيكة ذهبية نقية، ثم نردها إليه ناقمين، لأننا قد ‏‏وجدناها -كما شرطنا عليهخالية من الشوائب؟! إلا أن تكون مغامرة لغوية نُسطر فيها ‏موقفًا ‏‏حماسياً جميلاً في باب ( الشاعرية ) باعتبارها دفقة عارمة ضد تجربة ( ما )، أو احتجاجاً محاكاً ‏‏في لحظة سأم ٍلغرِّيدٍ ملأ الدنيا زهواً وغناءً‎‏ . ‏
يا سيدي الشاعر من أوهمك أن الحرية شيئاً مطلقاً حتى فُجعت كل هذة الفجيعة لَّما تبين لك أنها ‏‏قيد ضمن قيد؟! إنها يا سيدي ككل شيء في الحياة محكوم بأصل الخلقة، الحياة نفسها ‏ميلاد ‏‏وموت ، بداية ونهاية‎‏. ‏
‎‏ ‏‎‏ المفهوم الفلسفي للحريّة‎‏: ‏
ومع هذا يجب الاعتراف بأن ( الحرية ) من أكثر المصطلحات خداعاً، وهي كما أصفها مصطلح ‏‏‏(منشوري / بللوري) تستطيع بكل كفاءة أن تمنح الناظر من كل اتجاه صفحة مستوية ‏نقية ‏‏شفافة، لكن ما إن يشرع المحايد في امتحان مقولةٍ سابقة حتى ينقلب إليه البصر خاسئًا وهو ‏‏حسير‎‏. ‏
الضوءنفسهتنثره في أكثر من اتجاه بمجرد ملامسته لسطحها الزجاجي الصقيل؛ مما يجعل ‏إيجاد ‏تعريف محدد لها أمراً في غاية الصعوبة، وإذا استحضرنا مقولة: “سـابـيـر” ‏‏و”وورف” عن ‏تكييف اللغة للعالم، والمعروفة بــ:( الحتمية اللغوية) فإن طبيعة اللفظة نفسها ‏هي التي تزيغ ‏الأبصار، وتنصب المصطلح جسدًا بللوريًّا (منشوريًّا) لا يساعد كثيٍرًا على ‏إيجاد ‏تعريف واحد، بل ‏إن ظهور المصطلح مرهون أساساً بالاختلاف، وتباين وجهات النظر وليس ‏الاتفاق، إلا أنه يمكن ‏‏(ترسيس_ بالراء‎_ RECONSTRUCTION) ‎النظر إليها ‏هنا على ‏أساس الجامع العام حرصًا ‏على مقاربة الفكرة التي تقوم عليها الحرية‎‏. ‏
وهي بهذا الاعتبار تعد مصطلحًا محايدًا، بل مرغوبًا فيها من جميع المجتمعات والمستويات ‏‏والأنظمة، فلا يوجد إنسان في العالم يدعي أنه يريد العبودية ويفضلها على الحرية، كما لا ‏يوجد ‏‏مجتمع مهما بالغ في احترام تقاليده يدعي أنه يصادرها أو يسلبها (على الأقل على المستوى ‏‏النظري‎‏ ). ‏
أما السبب فهو أن ( الحرية ) مصطلح يستحضر في أحشائه فكرة الالتزام ولا يلغي الاعتبارات ‏‏دينية أو أخلاقية أو اجتماعية…، بل يسعى لإيجاد صيغة توافقية مُثلى للمواءمة بين ‏مساحة ‏‏ملكية التصرف وحقوق الاختيار، وبين حقوق الآخرين والمصالح العامة التي يحكمها القانون، ‏‏بحسب تصور كل كيان لذاته وأسباب وجوده وغايته‎‏. ‏
فالحرية إذا: تعبير فلسفي يشير بشكل أو بآخر إلى: الرغبة في الاختيار والتصرف وفق شرعية ‏‏مكفولة وليس هدما لاعتبارات الانضباط، أو انعتاقًا أرعنَ من المسئولية كما قد يُظن. ‏لذلك قلت: ‏‏إن المصطلح نفسه مصطلح محايد، أي: أنه يمكن أن يُعطى بُعده المقنن وفق المنظومة ‏‏الـ(قيمية) والـ(تشريعية) المعتبرة في هذا القطر أو ذاك، أو بين المجتمعات المختلفة‎‏. ‏
إن شرايين الحرية معبأة بدماء حارَّة ضختها وتضخها رؤى متباينة، ولكنها تُجمِع على: أن ‏‏المسئولية جزء من قيمة الاختيار الذي تهبه الإنسانية؛ من أجل تحقيق وجود فاعل مثمر، ‏‏‏وحركة مجتمعية متسقة، تضبط إيقاع المصالح المتقاطعة كما تفعل إشارات المرور؛ حين يكون ‏‏من حقي ومن معي في الشارع العبور يتحتم على مرتادي الشوارع الأخرى التزم ‏الوقوف‎‏. ‏
‎‏
الحريّة في الثقافة العربية‎‏: ‏
وفي الثقافة العربية نجد هذا الوعي (كون الحرية = الاختيار+الالتزام) قائمًا على نحو واضح ‏‏جدًّا، فمثلاً تقول العرب‎‏: ‏
‎”‎تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها‎‏”. ‏
‎”‎وعد الحرِّ دينٌ‎‏”. ‏
فوجود الحرية تحجب الحَّرة من بعض أوجه الكسب، وتحتم عليها الاحتراس من المدنِّسات، كما ‏‏إن حرِّية من قطع على نفسه وعداً لا تخوِّله الحق في الرُّجوع عن وعده بل تجعله واجباً ‏مستحق ‏‏الأداء متى حان وقته، وقدر عليه‎‏. ‏
ولكون الحرية قدرة على الاختيار والتزاما به بعد ذلك، يؤكد الدين الإسلامي منحها لأتباعه ‏‏وللإنسانية جميعاً، بل ويجعلها الحق الأول الملازم للإنسان؛ بأصل إنسانيته، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ‏آدَمَ ‏‏وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً‎‏}. ‏
وهذا الحق يمنح الفرد بالضرورة الخيار الأكبر في الإيمان أو الكفر، وهو الشيء الذي لم يمنحه ‏‏الله تبارك وتعالى للسماوات والأرض، على عظمهما؛ وهما أكبر من خلق الإنسانكما ‏نص على ‏‏ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ ‏‏كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‎‏} ‏
‎‏ ‏أما في جانب الإنسان ( وما يلحق به ) فإنه تعالى يقول‎‏: ‏
‎{‎لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ ‏بِالْعُرْوَةِ ‏الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‎‏} ‏
‎{‎وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‎‏}. ‏
‎{‎فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ‎‏}. ‏
‎{ ‎اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‎‏ }. ‏
‎{‎وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ‎‏}. ‏
‎{‎قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً‎‏}. ‏
‎‏ ‏ولكن الإنسان بعد أن يختار ويعمل يصبح مسئولاً أمام ربه ونفسه عن اختياره: {وَقُلِ اعْمَلُواْ ‏‏فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ ‏‏‏تَعْمَلُونَ}، و{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. ويصبح ‏ملزماً ‏تجاه الناس أيضاً لتتضح الأمور وتكتمل الحقوق . يقول الرسول الكريم عليه الصلاة ‏‏والسلام:”آية ‏المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدَّث كذب ، وإذا أؤتمن خان”. فإنّ ‏للإنسان ألا يعد، وله ألا ‏يحدّث، وألا يقبل الأمانة، ولكنّه إذا ما وعد فإنه ملزم بالوفاء، وإذا ما ‏‏حدّث فإنّ عليه أن يصدق ‏في حديثه، وإذا ما قبل الأمانة فمن الواجب عليه حفظها وأداؤها إلى ‏صاحبها‎‏…. ‏
‎‏مصطلحات أخرى تلتبس بالحريّة‎‏: ‏
وإذا كانت العبودية نقيضاً للحرية فإن هنالك مصطلحات تنقضها، وتقابلها على الاتجاه الآخر، ‏‏مثل: (الإباحية، التمرد، التفلت/الانفلات، التحلل/الانحلال) وهي ألفاظ تستعمل بثقل ‏اصطلاحي ‏‏مغاير للحرية، ومختلف فيما بينها أيضاً، ولكنها مصطلحات مقيتة، تفيد ممارسة الاختيار دون ‏‏مراعاة للقيم والأخلاق، أو الضوابط العقلية أو الفكرية أو القانونية، أو أسس ‏الاجتماع البشري؛ ‏‏أو وبعبارة أخرى إنها تتجلى في كسر المتعارف عليه، ويحكمها النزوة والإمكانات الجسدية، ‏‏والظرف المادية، وما تحقق من منجز تقني؛ أي: محكومة برغبات ‏الفرد من جهة، والإمكانات ‏‏من جهة أخرى، غير أن هذه المصطلحات غير محبوبة ولا محايدة، ترفضها المجتمعات، وتأباها ‏‏الأنظمة، ويحاول العاقل دوما أن ينفيها عن نفسه، ولو ‏مارسها في واقعه. فهي ذات دائرة أوسع ‏‏لكن ليس لها ضابط قانوني أو أخلاقي، بل هي كذلك متمردة على كل ضابط ديني أو قيمي أو ‏‏قانوني أو أخلاقي لذا هي مصطلحات غير محايدة، ‏وغير مرغوب فيها. وإن كانت تختلف ‏‏المجتمعات في تفسيرها وتحديد مجال عملها تجريدًا وسلوكًا‎‏… ‏
وإذا كان قيد الحرية (ذاتيًّا وأخلاقيًّا) قبل كل شيء، فإن الإباحية ليس لقصور في طبيعة الإطلاق، ‏‏لكن لطبيعة الارتهان بالضرورة للسنن الكونية والطبيعية، التي قدرها الله: نسبية لها – ‏‏أيضاً‏حدود لا يمكن تجاوزها‎‏: ‏
‏ فالإباحية لا يمكنمثلاً أن تتصور على قدر واحد لدى إنسان الكهوف كما يمكن أن تكون في ‏‏مجتمع يجوب أفراده الفضاء، ويفيدون من الأقمار الصناعية ‏والفضائيات، ويستعملون الحاسب، ‏‏ويمارسون لحظياً التواصل وتسويق الأفكار والمنتوجات عبر شبكة عنكبوتية مترامية الأطراف ‏‏بواسطة الكلمة والشاشة، وتنتقل المعلومة بين أفراده ‏بسرعة تفوق سرعة الصوت، وهذا يقرر ‏‏أن الخبرة الإنسانية، والطاقة الجسدية، والإمكانات الماديّة المتوفرة جزء من محدّدات الإباحية‎‏. ‏
‏ والإنسان مهما بلغ من ادعاء التمرد والإباحية لا يستطيع أن يخرق قوانين الله التي وضعها في ‏‏الأرض أو في جسده، يقول تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ‏الْجِبَالَ طُولاً}، ومن ثمّ فإنّ ‏‏قدرته على التمرد مهما بلغت، جدّ محدودة؛ لأنها مقيدة بالسنن البيولوجية في جسده وبالسنن ‏‏الكونية الفيزيائية في الكون من حوله. وحتى حينما يبدو له أنه ‏قادر على خرق هذه السنن في ‏‏جسده أو في الكون الذي يتقلب فيه، فإن الواقع يقرر أنه محتاج إلى الاعتراف بهذه السنن أولاً، ‏‏واستخدامها لممارسة ما به يظن أنه يخترقها ويتجاوزها، ‏وهو على الحقيقة يدعمها ويرتهن ‏‏لها‎‏.. ‏
‎‏ ‏‏ كما إن الإنسان شاء أم أبى لا يستطيع مقاومة الصيرورة إلى ملاقاة الله، ولا مناص من ذلك؛ ‏‏وفي القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية يرغَّب الإنسان عند المصيبة، التي ‏تطيش لها الأحلام في ‏‏الاعتراف بالعودة إلى الله والعبوديّة الحقيقية له، فيلهج بالقول البليغ الصادق: إنا لله وإنا إليه ‏‏راجعون {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }( ‏‏)، وقال عليه الصلاة ‏‏والسلام: “ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي، ‏‏وأخلف لي خيرًا منها. إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا ‏منها…” وهذا يقرر حتمية ‏‏الرجوع إلى الله، شاء الإنسان أم أبى‎‏. ‏
‎‏ ‏لهذا أستطيع أن أقول: الحرية في الإسلام، والحرية في اليهودية، والحرية في المسيحية، ‏‏والحرية في الشرق، والحرية في الغرب، ومفهوم الحرية عند “ميل”، أو عند “جون لوك” أو ‏‏‏‏”ستيوارت”، أو عند الفلاسفة العرب، أو عند الفقهاء.. إلخ مستحضرًا في الوقت ذاته اختلاف ‏‏النظرة إلى هذه الحرية بحسب المنظومة التصورية، التي يزن بها كل فريق الأشياء ‏ويحكمون ‏‏عليها‎‏. ‏
لكن لا أستطيع مثل ذلك مع مصطلح ( الإباحية ) التي تعد هجاء للإنسانية، وهدماً همجياً ‏‏لمصطلح ( الحرية ) الذي لا يمكن فهمه إلا بتقييده، وليست (الإباحية) كما قد يظن بعض ‏‏الناس ‏نوعًا يندرج تحته، أو أنه يتسع ليتقاطع أو يتطابق معه. والكلام في هذا متشعب لا ‏تتسع له هذه ‏المقالة‎.‎>

شاهد أيضاً

الكتاب بين الورقي والتكنولوجيا

بقلم / أحلام الشهراني سيدي سيدتي في ظل هذا التطور التقني والانفتاح الثقافي الذي نعيشه …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com