ابني خالد.. لك الله

علي القاسمي عسيرالموت يَفْتِك بنا حقاً، هو القادر على إيلام أرواحنا وثقب قلوبنا وجعل السواد من حولنا قاعدة لا استثناء، تفاصيله تنهشنا من الوريد إلى الوريد، ولا يؤدي هذا الدور القاسي إلا حين يأتي على هيئة موت باكر ومفاجئ.
أعترف بأني اكتب اليوم تحت تأثير فقد وبمعية انكسار، والكتابة هنا فعل تنفسي وهرب من الإنفراد بالبكاء للاقتراب من مزيج نقي بين الحروف الناطقة والبكاء الصامت، الكتابة في هذه اللحظة انزواء عن الوجوه التي إن التقيت بها أبْكتك!
أكتب عن خالد ابن شقيقي الذي فتح عينيه للدنيا بعد طول انتظار ليأتي الموت فيخطف أمه من دون أن تلقي عليه ولو تحية صامتة أو تهمس له بربع كلمة، ترك الموت هذه الأم تصارع المرض لأقل من شهر من دون أن ينال خلدون الصغير ولو لمسة دفء من حضنها أو يتذوق ربع جرعة من ثديها الذي لن يشاهده مرة أخرى مهما حاولت جدته تأدية دور التعويض المرير، لأن الجدة تحت التأثير ذاته الذي أكتب الآن لأجله تغذيه بدموعها كما لم تغذ أماً حفيداً من قبل.
اليتم طعنة خنجر، والنسيان محاولة شجاعة لانتزاع الذاكرة المثخنة والمتخمة باليتم وسحب الخنجر، فيما كمية الفرح المقسومة لليتيم في عمره المكتوب تحاول تطبيب الجرح وفعل المستحيل لكي لا يبقى أثر، ولكم أن تأتوا لي بمكان في الجسد مسه خنجر غادر ولم يبق للفعل أثر، اليتم حريق يشتعل بالداخل من دون أن يتمكن أحد من إخماده، قدر من يتذوقه أن يحترق صامتاً ويستسلم لحياة ربما تجود عليه بمن يملأ المساحة الموسومة بالحرمان، وربما تطحنه بمن يجعل روحه معلقة بالماضي والفقد.
الحزن يجوع لأسرتي في كل عام مرة أو مرتين، وكأنه يمرننا على التفاعل مع حياة ربما تكون فيها قيمة الابتسامة لبعض البشر مضاعفة وضيقة الزمن، لم أكن أتخيل أن تواجه والدتي في الرمق الأخير من العمر هم رعاية طفل صغير والوقوف مع ابنها الذي قالت له فواجع الدهر في غمضة عين «عليك أن تكون أباً وأماً في آن واحد».
في لحظة دهم الموت لك تشعر بثقل الآمال المحطمة، وتتجرع صعوبة الفقد وبطء الإفاقة من محيط أشبه بالحلم وواقع لا تغيره قدرة بشرية، اقتربت من خالد بعيد وفاة أمه بساعتين، بكيته وبكيت عليه، بكيته لأنه الضعيف الذي لا يملك من أمره شيء ولو أن يتنفس مثلنا بالدموع ويغسل خده الذي لم يؤثث بقبلة أم، بكيت عليه لأنه سيبلع مرارة أن يعيش بلا أم على رغم أن أمه البديلة «جدته» ستفعل المستحيل لأجل ألا ينزوي للحظة مفتشا عن «أم».
قلّبْت جاداً عن جملة اطمئنان أضعها بعناية للصغير الذي سيكبر فلم أجد أدق من جملة «لك الله يا خالد»، نمت للشهر واحد بالقرب من أمك وهي أشبه بجثة هامدة، كنت تحاول أن تشم رائحتها وكأنما توقعت أنها لن تكون بجانبك في ما تبقى من حياتك، فرغبت ألا يخادعك أحد برائحة امرأة ليست أمك وتكتشف ذلك بنفسك. ابني خالد… لن يرضى عمك أن تقول له يا عم، سيكون لك أباً، تخيل يا خالد أن يكون لك أبوين، ستقف بجانبي وجانب أبيك قريباً، وتعلمنا كيف أن العالم مليء بالأيتام الذين أصبحوا عظماء لأنهم آمنوا بأن اليتم حال قوة، ومدرسة مستقلة في مشوار العمر، وتكون كما كنا نقول لأمك عن أحلامنا فيك، وبكت حينها فرحاً بالولد والحلم، سأتوقف مجبراً فلو كانت المساحة تسمح لاستبدلت نقطة الختام بدمعة حارة مسكوبة كي تمثل الحال التي أعيشها الآن بالضبط.

>

شاهد أيضاً

الكتاب بين الورقي والتكنولوجيا

بقلم / أحلام الشهراني سيدي سيدتي في ظل هذا التطور التقني والانفتاح الثقافي الذي نعيشه …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com