أربع رسائل لداعش أ.د /عبدالعزيز بن عمر القنصل الغامدي
أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة جامعة الملك خالد -أبها-
صحيفة عسير : فايع عسيري
الرسالة الثالثة: موقف الإسلام من غير المسلمين وتعايشه معهم .
الإٍسلامُ يحترمُ جميع الرّسالات السّماويّةِ، وهذا أمرٌ طبيعيٌ فهو من عند الله تعالى، وقد أرسل الله عزّ وجل رسوله محمّداً صلى الله عليه وسلم خاتماً لجميع الرّسل الّذين كانوا قبله عليهم الصّلاةُ والسّلامُ، وأنزل عليه القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيءٍ، وتصديقاً لما بين يديه وحارساً أميناً عليها وهدى ورحمةً للعالمين، وكان من أركان الإيمانِ لدى المسلمين الإيمانُ بجميعِ الرّسل عليهم الصّلاةُ والسّلامُ دون تفريقٍ في الإيمانِ بهم، والإيمانُ بجميع الكتب السّابقة على القرآنِ الكريم، قال تعالى” آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ([1])” ولا يصحُّ إيمانُ المسلم إلاّ إذا آمن بجميع الرّسل عليهم الصّلاةُ والسّلامُ السّابقين لرسالة وبعثةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلّم، وآمن بما أنزل الله تعالى من كتبٍ سماويّةٍ صحيحةٍ، ولا يلزم من هذا الإيمان الإتِّباع، فقد نسخت شريعتُهُ صلى الله عليه وسلم جميع الشّرائع السّابقة، قال تعالى” قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ
____________________________
بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ([1]) ” .
وبما أنَّ من الواجبِ على كلِّ مسلمٍ أن يؤمن بجميعِ الرّسل عليهم الصّلاةُ والسّلامُ، وبجميع الكتبِ السّماويّةِ، فمن الطّبيعي ألاّ يكون لديه أيّ تعصّبٍ، ولا كراهية لدينٍ آخر سماويٍ، أو لنبيٍ أو رسولٍ، ولا كراهية ولا حقد على أحدٍ من أتباعِ الرّسالات الأخرى، وهذا الإيمان لا يقتضي المتابعة، بل مجرّد الإيمان بهم والتصديق برسالتهم .
وقد وضّح القرآن الكريمُ لأتباعهِ ما اقتضته الحكمةُ الإلهيةُ منذُ الأزلِ، من اختلافِ النّاسِ في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم، وتلك حكمةٌ إلهيةٌ لا يعلمها إلاّ الحكيمُ الخبيرُ، قال تعالى” وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ([2])” وقال جل وعلا” وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ([3])” ولا يحجرُ الإٍسلامُ على أحدٍ، ولا يكرهه على الدّخولِ فيه والإيمان بعقيدته، قال تعالى” لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ([4])” ومن خلال ما سبق يتبيّنُ لنا أنّ الإسلامَ دينُ سلامٍ لا دينُ حربٍ([5])، ولا يلجأُ الإسلامُ للحربِ واستعمال العنفِ إلاّ في حالاتِ الضّرورةِ، وقد حدّدها القرآن الكريمُ بالاعتداءِ على أتباعه، أو بالدّفاعِ عن المستضعفين في الأرضِ، كما قال تعالى” الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ([6])” وقال تعالى” وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن
________________________________
([2]) سورة هود الآيتان: 118، 119 .
([5]) انظر: الإسلام دين التّسامح د: أحمد عمر هاشم ص 7 ـ 9 .
لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً( )” أما ما عدى ذلك فمن يقول بأنّ الإسلامَ يدعو إلى العنفِ والقتالِ فقد افترى عليه، وكذب في حقّه سواءٌ جهل ذلك، أم علمه وكابر، ونصوصُ الدّينِ الإسلاميِّ دالّةٌ على هذا، وتاريخُهم شاهدٌ بهذا .
وفي حالة السِّلم نرى الإسلامَ يقفُ من المخالفين له موقف الأمانِ والاحترامِ المتبادلِ، بل إنّه ليأمرُ بالبرِّ بهم والإحسانِ إليهم، ما لم يُقاتلوا المسلمين، قال تعالى” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( )” .
ونهى القرآن الكريمُ عن مجادلة أهلِ الكتابِ إلاّ إذا كانت تلك المجادلة بالّتي هي أحسن، وليس بالحسنى فقط، بل بالّتي هي أحسن، فقال تعالى” وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( )” وقال تعالى” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( )” بل لو طلب المشرك من المسلمِ أن يُجيرهُ ويمنعه من وقوعِ الشّرِّ عليه، فإنّ على المسلمِ أن يستجيب له ويُجيرهُ حتّى يبلغ مأمنه، وذلك استجابةً لأمر الله تعالى الذي قال” وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ( )” .
ومن رعايةِ الإسلامِ لحقوقِ غير المسلمين رعايته لمعابدهم وكنائسهم، ومن محافظته عليها أنّ المسلمين نُهوا عن هدمها أو الإضرار بها، أو منع أهلها الدّخول إليها، قال الله تعالى” الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
___________________________
([1]) سورة النّساء آية: 75 .
([1]) سورة الممتحنة آية: 8 ـ 9 .
([1]) سورة العنكبوت آية: 46 .
([1]) سورة آل عمران آية: 64 .
([1]) سورة التوبة آية: 6 .
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ([1])” وقد بدأَ القرآن الكريم بذكر الصوامع والبِيَعِ ليدلّل على مدى الاهتمام بدور العبادة لغير المسلمين، ومن رعايةِ المسلمين بها أيضاً أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عندما حان وقت الصّلاةِ وهو في كنسيةِ القيامةِ ببيت المقدسِ وأراد أن يصلي، طلب منه البطريرك أن يصلي حيث هو في الكنيسة، فرفضَ عمر رضي الله عنه أن يصلّي بها خوفاً من أن يتّخذ ذلك المسلمون حجّةً فيحوّلوها لمسجدٍ بعد أن يأخذوها من النّصارى، ويقولون: هنا صلى عمر([2])، ولم تتوقف معاملة المسلمين لغير المسلمين عند المحافظة على أموالهم وحقوقهم، بل حرص الإسلامُ عبر عصوره على القيامِ بما يحتاجه أهل الكتاب، وما يحتاجه الفقراء منهم، وقد قرّر أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لهم كفالةً من بيت مال المسلمين، فقد روي أنّه مر بباب جماعةٍ فوجد سائلاً يسأل، وهو شيخ كبير ضرير فسأله قائلاً: من أيّ أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، فسأله: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسّنّ، فأخذ عمر بيده إلى منزله، وأعطاه، ثمّ أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وأضرابه، فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم([3]) .
ولم يحدث في تاريخِ سلفنا الصّالح أنّ أحداً منهم أهان أحداً من أهل الذّمّةِ، بل أي تَجاوزٍ على أحدٍ منهم كان الإسلامُ يعالجه في الحالِ، فعندما شكا أحد الأقباطِ إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ ابن والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه قد لطم ابناً له لأنّه غلبه في السِّباقِ الّذي أُجْرِيَ بينهم، وقال له: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين!! أسرع أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بإحضارِ والي مصر عمرو بن العاص وابنه إلى مكّة المكرّمة في موسم الحجِّ، وأعطى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الدّرة لابن القِبطي وأمره أن يقتصَّ
_____________________________________
([2]) انظر: تاريخ ابن خلدون ( 2 / 225 )، ( 2 / 266 ) .
([3]) انظر: موسوعة الرّد على اليهود والنّصارى لعبد الوهاب المسيري رحمه الله ( 11 / 49 ) وفقه النّصر والتّمكين في القرآن الكريم لعلي بن محمّد الصّلابي ( 2 / 74 ) وموسوعة الردّ على المذاهب الفكرية المعاصرة لعلي بن نايف الشاحود( 49: 322 ) وإزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء لمحدث شاه ولي الله دهلوي( 5: 267 ) والتفسير الحديث لمحمد عزت دروزة( 9: 412 ) ودراسة نقدية في المرويات الواردة في خصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية لعبد السلام بن محسن آل عيسى( 2: 1056 ) .
من ابن الأكرمين، ثم قال لعمرو بن العاص: متى تعبدتم النّاس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحراراً([1])، وقد أقام الإسلامُ العدل بين المسلمين على أنفسهم وعلى غيرهم، وفي رسالة سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى القاضي أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ما يدل على هذا، حيث كتب إليه: آسِ بين النّاسِ في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمعُ شريفٌ في حيفك، ولا ييأسُ ضعيفٌ من عدلك، فلا يصح التّفرقة بين المتخاصمين، حتى ولو كان أحدهم غير مسلم([2]) .
وهكذا نرى كيف عامل سلفنا الصّالح غير المسلمين، وكيف أظهروا سماحةَ الإسلام الّذي لا يقرُّ العصبيّة، ولا يرضى الظّلم حتى لغير المسلمين، بل يدعو إلى التّسامح والتّعايشِ والعدل معهم ولو كانوا على دينٍ غير دينهم، وهذا المنهاجُ المتسامحُ مع أهلِ الرّسالات الأخرى هو سرُّ عظمة الإسلام، وسرّ ذيوعه وانتشاره في ربوعِ المعمورة([3])، فقل لي بربّك كيف تكون معاملته مع أهل ملّته وقبلته!! .
___________________________________________
([1]) انظر: جامع الأحاديث للسيوطي، مسند عمر بن الخطاب ( 25 / 472 ) فتاوى الأزهر الشّريف ( 10 / 382 ) فتوح مصر وأخبارها لأبي القاسم عبد الرحمن القرشي المصري ( 1 / 183 ) .
([2]) انظر: إعجاز القرآن للباقلاني ( 1 / 140 ) والسنن الكبرى للبيهقي ( 10 / 135 ) وجامع الأحاديث للسيوطي ( 28 / 181 ) وسنن الدارقطني ( 4 / 206 ) والحاوي الكبير للماوردي ( 6 / 1220 ) .
([3]) انظر: الإسلام دين التّسامح لأحمد عمر هاشم ص 24 .
>