م. ناصر آل عثمان
من السوء ما يمكن أن تقع فيه هو أن يستقر قلبك وعقلك معاً على أمرٍ ما ثم لا تجد الدليل القاطع, والأسواء من ذلك أن تكون الشواهد كالغيوم تملئ السماء وكأنها ستمطر ولكنها لا تمطر بشيئ!.
كنت أقول أن الحكيم صاحب حجة دامغة ويكفي أن يتحدث أو يفعل ليُصدَّق, وأن الدُخان يكفي لإثبات وجود نار أو يكفي لدلالة اشتعالها في ما بعد, وأن الإجماع دليل يؤخذ به في أقوال الفقهاء والعلماء والمسلمين وما إلى ذلك, لكنني آمنت أن الواقع قد يُعرقل كل ما سبق, بل وقد ينسفه كله ويجعله وهماً من الأراجيف أو الافتراءات والأكاذيب والسَفَه! وهذا مما يحتار فيه العقل إن حصل.
مما آمنت به في هذه الحياة أن القرآن جمع الكثير من الشواهد على هذه الحيرة بين العقل والقلب, فكيف يصدِّق العقل بشيء والقلب يؤمن بخلافه! لقد حدث هذا بالقصَصَ في القرآن.
موسى والخضرعليهما السلام, وقع الخضر في مشاكلة الفهم مع موسى عليه السلام حينما صاحَبَه في سفره, موسى يقول للخضر: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) فهل يا ترى أن موسى سيستوعب كل ما سيحدث في هذا السفر بقناعه وصمت لثقته بالخضر! لأنه قال عنه : (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) فلم يخطر ببال موسى حينها أن الخضر سيرتكب مع رشده تصرفاً يستوجب التردد والتعنت عن القبول به.
مضى الخضر (الرشيد) فخرق سفينة ثم قتل طفلا ثم بناء جدراً دون أن يتخذ علية أجرا!! يا للعجب والحيرة التي وقع فيها موسى علية السلام, الخضر بعلمه وحكمته ورشده يفعل كل هذه الأفاعيل دون سببٍ مسبق؟! لقد اتحد قلب موسى وعقله على ألا يقبل بهذه الأفاعيل إلا ببينةٍ لا غبار عليها, وكيف للخضر أن يلوم موسى علية السلام على هذا التعجب والحيرة!؟ لكن الخضر أعذر موسى مسبقاُ فقال: ( وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)!.
انتهت الأحداث وجاء الخضر يبرر لموسى كل شيء فقال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا..) الآيه, لقد جاءت هذه الإجابة من الخضر “الرشيد” شفويةً كافيةً شافية لموسى علية السلام, واقتنع بها.
الآن..أظنكم تقولون وماذا تريد بعد هذا الاستطراد الفضفاض! وكيف يقتنع الإنسان أحياناً بغير دليل فأقول في وقفاتٍ مختصرة:
عقل المرء قد لا يُسعِفُه لتحقيق مصلحةٍ شخصية أو عامه فيحتاج إلى مَن هو أعلم وأعقل.
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) خذ برأي الحُكمَاء حتى لو خالف هواك واستأنس برأيهم واستطلب مشورتهم.
في حديثٍ ” ضعيف الإسناد” عنه صلى الله علية وسلم: ( لا تجتمع أمتي على ظلالة ) الإجماع يُأنس به في عُرف الناس وشرع الله.
الأحداث الجِسام تحتاج إلى :
فصاحة لسان: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا ).
توجيهٌ وبيان: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ..)الآيه.
حكمةُ وثباتُ جَنان: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
تأملوا هذه الوقفات لتستطيعوا أن تتعاملوا في حياتكم مع بعض المواقف التي تغيب فيها الحجه مؤقتاً أو يتعذر البرهان عليها, والسلام.
>