بمناسبة اليوم الوطني ..

[contact-form][contact-field label=”الاسم” type=”name” required=”true” /][contact-field label=”البريد الإلكتروني” type=”email” required=”true” /][contact-field label=”الموقع” type=”url” /][contact-field label=”رسالة” type=”textarea” /][/contact-form]

أ.د : عبدالعزيـز بن عمـر القنصل

جامعة الملك خـالد – كلية الشريعة وأصول الدين

قسم العقيدة والمذاهب المعاصـرة

صحيفة عسيـر :

للوطنِ في النفوسِ الكريمة والقلوبِ الوفية مكانةٌ عالية، وقيمة غالية، لا يمكن أن يفرّطون فيه، أو يتنازلوا عنه، أو يساومون عليه، تحت أي ضغطٍ، ورغم أيِّ ظرف، رغباً كان ذلك أو رهباً، ويرون أن الموت في سبيله من ضرورات الحياة، والتفريط فيه خيانة تستحق الموت، والدفاع عنه جزء من الدفاع عن دينهم وكيانهم وسيادتهم وكرامتهم، على أساس أنّ الوطن هو الأرض التي تُقام عليها شعائرُ الدّينِ، ولابد للدين من أرضٍ ليستقرّ عليها، وتُطبق أحكامه ومبادئه فيها، لهذا المعنى كان المسلم الّذي يموت دون أرضه شهيداً، وكان الدفاع عن الوطن حتماً لازماً، وحينما نعتقدُ أن الوطن عبارة عن قطعةٍ جغرافيةٍ من الأرضِ، نكون قد ارتكبنا خطأً فادحاً في حقِّ أنفسنا وفي حقِّ الوطنِ، لأن الوطن في الحقيقة أكبر بكثيرٍ من تلك القطعة الجغرافية، الوطنُ باختصارٍ هو الإنسان نفسه، هو الشُّعُورُ وليس الشِّعَارِ، هو الكيانُ الّذي يعيشُ هو داخلَنا لا الّذي نعيشُ نحن داخِله، الوطن هو المكانُ والزمانُ، هو التاريخ والجغرافيا، بل هو الإنسانُ، ومن حُرم من وطنه فقد حرم مما سبق، ولو كان الوطن غير الإنسان لاستغنى الإنسان عن تلك القطعة الجغرافية بمجرد أن يجد أخرى أنضر منها للعين، وأسهل منها في التنقّل، وهذا ما يفسّر لنا بقاء البعض في مناطق صحراوية قاسية، أو جليديّة تصعب الحياة فيها، إلاّ أنّ أهلها لا يمكن أن يتحوّلوا عنها ويستبدلوها بغيرها مهما قست الظروف عليهم، ومهما ذُلّلت الصعاب لهم في مناطق أخرى، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد وقف صلى الله عليه وسلم على الحَزْوَرَةِ فقال مخاطباً مكّة المكرّمة” علمتُ أنّك خيرُ أرضِ الله، وأحبُّ الأرضِ إلى الله عزّ وجلّ، ولولا أنّ أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ” فهذا حنينه صلى الله عليه وسلم للمكان الّذي ولد وتربّى فيه، وما كانت مكةُ آن ذاك قبلةً للمسلمين، بل القدس الشريف هو القبلة المأمور باستقبالها، لكنه الحنين للوطن، والوفاء منه صلى الله عليه وسلّم .
وكذلك صحابته الكرام رضوان الله عليهم وأرضاهم لما خرجوا من مكّة المكرّمة مهاجرين إلى الله ورسوله وتوجّهوا تلقاء يثرب الأمس والمدينة المنورة اليوم من شدّة الحنين لديارهم” مكة المكرّمة” أصابتهم الحمّى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم” اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكّة أو أشدّ، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدّنا وصحّحها لنا، وانقل حُمّاها إلى الجحفة” .
إنَّ تدريس التربيةِ الوطنية بأسلوب علميٍ شرعيٍ، بعيداً عن الركاكة والمبالغة أمر ضروريٌ، يجب أن يطّلع به علماء حكماء، يجب أن يطّلع به علماء عُرفوا بحبهم للوطن لا بحبّهم للثمنِ، من دفع؟ وكم سيدفع؟ يجب أن يأخذ حبُّ الوطنِ مساحته المناسبة لا إفراط ولا تفريط، إنّ الفرد يجد في داخله الانجذاب للمدينة التي عاش فيها، بل للقرية التي ولد فيها وللحي نشأ فيه على غيره من مدن البلاد والقُرى الأخرى وهي في دولة واحدةٍ، فينجذب إليها كما ينجذب النحل إلى الأزهار، والطير المهاجرُ إلى مياه الأنهار، وهذا ما حدث منه صلى الله عليه وسلّم ومن صحابته الكرام رضوان الله عليهم يوم أن هاجروا من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة، وكلا المدينتين في شبه الجزيرة العربيّة .
لقد اهتم الشارع الحكيم بالوطن، لأنّ حب الوطنِ مما فطر الله الخلق عليه من إنسانٍ فهيمٍ، وحيوانٍ بهيم، قال جل وعلا” لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ()” وهذا شرفٌ عظيمٌ لمكة المكرّمة عمماً، وللحرم على وجه الخصوص بل وللمملكة العربيّةِ السعودية التي تشرف بضم الحرمين الشريفين بين أحضانِها أن يُقسم الله جل وعلا بهذا البيت، لله تعالى أن يُقسم بما شاء، لكن أن يُقسم جل وعلا بالوطنِ فهذا دليل على أهميّته ومكانته، وقال تعالى عن بني إسرائيل أنهم قبلوا قتال العمالقة بعد رفضهم ذلك أوَّل الأمر، وذلك بسبب إخراجهم من أوطانهم، فساووا بين خروجهم من الأوطان، وحرمانهم من الأبناء، وما ذاك إلاّ لمكانة الوطن في النفوس، فقال تعالى” أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا” وقال تعالى” وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً()” قال أهل التّفسير: وفي الآية الكريمة دليل على صعوبة الخروج من الدّيار إذ قرنه الله سبحانه وتعالى بقتل الأنفس، وقد خرج الصحابة المهاجرون رضوان الله عليهم من ديارهم، وفارقوا أهليهم حين أمرهم الله جلّ وعلا بالهجرة .
وكما ورد في القرءان الكريم الكثير من الآيات الكريمات كلها تدل على أن حب الأوطان أمر فطري وشرعيٌ، كذلك ورد في السنة المطهّرة من النصوص الكثير تدل على هذا المعنى من ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا قَدِم من سفرٍ فرأى درجات المدينة أوضع ناقته، أي: أسرع بها، وإن كانت دابةً حرّكها من حبِّها” فهو صلى الله عليه وسلم يسرع بدابته إذا رأى طرق المدينة من بعيد، وفيه دلالة على حبِّ الأوطان لأنّ النفوس جُبِلت على حبِّ الأوطانِ والحنين إليها، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم وهو القدوة الحسنة، وأمر صلى الله عليه وسلم أمّته سرعة الرّجوع إلى أهليهم عند انقضاء أسفارهم، وقال صلى الله عليه سلم في مكّة وطنه الأصل” ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجتت” .
لقد ابتًليت الأمّةَ الإسلاميّة في الآونةِ الأخيرةِ بجماعاتٍ تتدثّرُ بزِيِّ الدّين، وتلبس للناس جلود الضأن من اللّين، لهم ألسنةٌ أحلى من العسل، وأجندةٌ ومآربُ أمضى من الأُسُل، همّهم همٌ، وهمٌ الدعاة الحقيقيون همٌ، يجمعون من التراثِ كلّ شاذٍ ومنبوذٍ، ويُرَبُّون الأتباع على عقوق الأوطانِ، والزّعمِ أنّ حبها شبيهٌ بحبِّ الأوثانِ!! وتلك لعمرِ الله مكيدةٌ على الناشئةِ ومكرٌ بها، وزلّةٌ من هؤلاء الأوغادِ لا لَعاً لها .
حبُّ الأوطانِ أمرٌ شرعِيٌ فطريٌ عقليٌ ليس فيه محظورٌ ما لم يُقدّمُ على الدّينِ، ومال لم يصاحبه تعصّبٌ وحميةٌ جاهليّةٌ، وتقديم حبُّ الأوطانِ على الدينِ، أو التعصب له بدعوى جاهليّةٍ مما لا يقول به عاقلٌ، ولا يدّعيه ناقلٌ، لكنّ المساواة بين الحبّ الفطريِّ، والتعصبُ الجاهلي، مساواةٌ ظالمةٌ، ومقارنةٌ جائرة، ومكيدةٌ الله أعلم بالمرادِ منها .
من الطبيعي أنّ من يكره وطنه الّذي آواه وربّاه، وله عليه فضلٌ بعد الله، فتعلّل تعللاً بباطلٍ، وتعلقَ تعلقاً بضلال، وتخلّق بخلقِ منافق، فخان مبادئه، وتنكّر لأصالته، وعقَّ أهله وذويه، وحاد عن الحقِّ، ومال إلى الباطل، لا شكّ أنّ هذا مسخٌ وليس بشراً سوياً، هذا قَذَرٌ وليس شخصاً نقياً، فخونة الوطنِ أعداءٌ لدينهم، وحَزَنٌ على أهليهم، وهم مثالبُ على أوطانِهم، لديهم استعداد لبيعه ولو بثمنٍ بخسٍ، فسدت مقاصِدُهم ففسدت تصوراتُهم، فركبوا على ظهر الخيال ليصلوا إلى الضّلال، وصوّروا فعلهم ذلك نُجعاً وهو ضربٌ من الخباَلِ، وهذا دربٌ سلكه التّافهون، وسبيلٌ اختطّه المجرمون، فمن لا خير فيه لوطنه فأي خير يرجى فيه، هؤلاء الخونة يتخبّطون في ضلالات الأفكار المتضاربة، ويتسابقون في سُبُلِ الطرق المضلّة، تتنازعهم الشهواتِ، وتبررّ جرائمُهم الشّبهاتُ، وتغويهم الدّعايات، فمسارهم مرفوضٌ، وميدانُهُم ملفوضٌ، لا يدعم فكرَهُم كِتابٌ ولا سنّةٌ، ولا يؤيّد نهجَهُم عقلٌ ولا منطقٌ ولا فطرة، ومع هذا وذاك يصرون عليه إصرار الشياطين على الغِواية، ولهم في عصرٍ رايةٍ ورواية .
قال الأصمعيُّ: إذا أردت أن تعرف وفاء الرّجلِ ووفاء عهدِهِ، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقِه إلى إخوانِه، وبكائِهِ على ما مضى من زمانِه، وقيل لأعرابي: كيف تصنع في الباديةِ إذا اشتدّ القيظُ، انتعل كلَّ شيءٍ ظلَّه؟ قال: وهل العيش إلاّ ذاك، يمشي أحدُنا ميلاً فيرفضُّ عرَقاً، ثم ينصِبُ عصاه، ويُلقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الرّيح، فكأنّه في إيوانِ كسرى، فما أعظمه من انتماء، وما أجمله في أحضانِ الوطنِ من ارتماءٍ، أن يرى الحُرُّ جلوسَه في وطنه تَسْفُوْهُ الرمالِ، ويكتالُ التُّرابَ، ممتداً في ظِلِّ كسائه، في وهَجِ الظهيرة، فيرى أنّ ذلك يوازي إيوان كسرى، أو يفوقه، وقد وشبّهت الحكماء الغريب عن الأوطانِ باليتيم اللّطيم الّذي ثَكِلَ أبويه، فلا أمٌ ترأمه، ولا أبٌ يحدِبُ عليه، هذه بعض أقوال الأسوياء من بني آدم، الّذين لا يرون بأوطانهم بديلاً ولو فُرِشَتْ لهم الأرض في غيرها أرائكاً وحريراً، ولو سُقُوا ماءً وعسلاً وزنجبيلاً، لأن فطرهم لم تتغير، وعقولهم لم تتأثر .
نسألُ الله تعالى أن يهدي قلوباً من كثرة النَّكْتِ فيها شردت، وعقولاً من كثرة النقد لها شُدِهت، فلم تعد تعلم من الحقِّ إلاّ ما يقوله الحاقدون، ولا من النقل إلاّ ما ينقله الأفاكون المفترون .>

شاهد أيضاً

“الفجيرة الاجتماعية الثقافية” تستعرض تجربتها في صناعة المحتوى بالرباط

صحيفة عسير _ يحيى مشافي أكد الخبير الثقافي الدكتور خالد الظنحاني رئيس مجلس إدارة جمعية …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com