صحيفة عسيـر :
أ.د . عبد العزيز بن عمر القنصل
رئيس قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
جامعة الملك خالد –
كلية الشريعة وأصول الدين
من المسائل البدهية التي لا يختلف فيها اثنان، ولا ينتطح عليها عنزان – كما قيل – أنّ الجهل هو أساس هدم الأمم واندثارِها، وأنّ العلم هو أساس بنائها وبقائها، فإذا أرادت أمّةٌ من الأمم أن تنهض وترتقي، وتسابق الآخرين في كلّ الميادين وتعتلي، وتجعل من نفسها قدوة يقتدي بها الآخرون، تتقدم عليهم ولا يتقدمون عليها، تسودُ ولا تُسادُ، وتقودُ ولا تُقادُ، فما عليها إلاّ أن تبدأ بالتعليم، وبالتّعليم أوّلاً، فما ارتقت أمّةٌ من الأمم بغير التّعليم، ولا انهارت إلاّ بانهيار التّعليم، وقد أشار الحق تبارك وتعالى لهذا المعنى في القرءان الكريم، وكذا فعل نبيه الكريمُ صلى الله عليه وسلم، فأوّل ما أنّزل الله على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قوله تعالى” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” فلماذا أنزل الله هذه الآيات الكريمات أوّل ما أنزل؟ ولماذا بدأ بها قبل التّوحيد الّذي أساس كلّ شيءٍ؟ وقبل الشرائعِ التي لا يقبل الله صرفاً ولا عدلاً بغيرها؟ أنزلها جل وعلا ليعلّنا أهمية العلم الّذي به تسود الأمم، وترتقي في سلّم المعالي، وتتقي به شر أعدائها، ولو لم يكن للعلم والتعليم أهمية عظمى لما كانت هذه الآيات أوّل ما طرق سمع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ ولا تكن من الجاهلين، اقرأ ولا تكن تابعاً للقارئين يوجّهونك حسب رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم، اقرأ ولا تكن ضالاً لا تعي ما يحاك ضدك، اقرأ ولا تكن تائهاً لا تدري ما يُراد بك، اقرأ ولا تكن عالةً على غيرك ليقرأ لك الواقع، ويفسره على ما يهواه وتأباه.
النصوص من الكتاب والسنّة أظهر من أن تُذكر، يعلمها الجميع أو يكادون، ولست الآن بصدد ذكر العلم وفضلِه وفضلِ أهله على غيرهم، بل أنا بصدد التّذكير بالعلم الّذي نتعلمه لنفيد منه في الدارين، وما يجب علينا فعله ليتلاءم مع العصر الحديث.
ليس كلّ ما ورثناه من سلفنا الصالح ثوابتٌ، ولا كلّ ما ورثناه منهم متغيرات، فهناك الثوابت التي يجب علينا أن نَعَضَّ عليها بالنواجذ، ولا نحيد عنها ما تعاقب الجديدان وهي القطعيات من ديننا وأخلاقنا، وهناك المتغيرات التي يجب علينا أن نطورها ونكيفها حسب عصرنا لنسابق الآخرين في سلم الحضارة والتقدم في كلّ المجالات.
يظنُّ البعضُ أنّ المساسَ بما ورثناه مما جاز فيه الخلافُ عقوقٌ، وفي المقابل يظنُّ البعضُ الآخر أنّ التشبّثَ بالقطعيات من تراثنا تخلّف، ومثل هؤلاء يجب أن يُقصَوا من صناعة القرار أو من المشاركة في صناعته، لأن ضررهم أكبر من نفعهم.
لا بدّ لنا من الجمع بين الأصالة والمعاصرة، فمن لا ماضي له لا مستقبل ينتظره، ومن لا مستقبل له فلا ماضيَ نافعه، ولا يجوز لنا أن نقول” وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ” ولا أن نقول ” إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا” بل علينا أن نتّبع الحقَّ فإنّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع.
تعليمنا في المملكة العربيّة السعودية يحتاج منا لتطوير وتحديث، تعليمنا في هذه البلاد الطيبة المباركة يحتاج منا لجهودٍ جبارةٍ مضنية، تعليمنا في مهبط الوحي ومنبع الدين يحتاج منا لإعادته لمنبعه الصافي، ومنبته الوافي وهي القواطِع الدينية و الثوابت الخلقية، وتطعيمه بما يعود على بلادنا وأمتنا من العلوم الحديثةِ بالنفع في الدّارين، فلا نسمح باختطافه ذات اليمين، ولا باختطافه لذات الشمال، فلا للإفراطِ ولا للتفريطِ، لا نريد أن يساهم تعليمنا أو يساهم في إخراجِ مسوخاً متطرفين، أو مسوخاً متفلّتين.
فما هي الآليات التي ينبغي علينا فعلها لتطوير وتحديث التعليم؟
أوّلاً: التحديث والتطوير لا يعني أنّ هناك فساداً وتخلّفاً يجب علينا تداركه، بل يعني الرقي والتقدم والملاءمة مع العصر الذي نعيش فيه، وهذا من سنن الله تعالى في الكون، الثوابت والمتغيرات، فكل شيءٍ يحتاج لتحديث وتطوير لتلاءم مع العصر والمِصر إلاّ دينه المعصوم الّذي أكمله وارتضاه.
ثانياً: لا يعني أنّ هذه الآليات غير موجودة أو أنّها منعدمة، ولا يعني أيضاً أنّ كلامي هذا قطعي يجب الأخذ به، بل هذه وجهة نظر آمل أن أوفّق فيها، وعلى أهل الحل والعقد النظر فيها، فما كان منها صواباً أخذ به، ما كان منها خطأً لا يؤبه به.>