حيث شارك بورقة عنونها (التوت والترحال ورغيف القصيدة ) وأدارها الأستاذ / إدريس البريدي.
تحدث فيها عن تأثير المكان في الإبداع حيث مثل بقريته قائلا:
المكانُ يفترشُ العشبَ ويلتحفُ الضبابَ حينا
وحينا آخر يستحيلُ سنابلَ قمحٍ أسمرَ كملامحِ أبي..
كلُّ ما في القريةِ يغري بالغناء.
الرعاة وهم يسوقون أغنامهم الى المنازل في رحلةِ العودةِ من الرعي
المزارعون وهم يحصدون القمحَ تارةً،
وتارةً أخرى وهم يقطفون عذوقَ الذرةِ
وأولئك الذين يسقون الزرعَ ترتفعُ أصواتُهُم نشيدا عذبا.
النساءُ يرددن خلف الرجالِ أغنياتٍ وقصائدَ كي تسليَهم في أعمالِهم الشاقة..
أغلبُ رجالٍ القريةِ ونسائِها يقولون شعرا رمزيا.. بعضُهم بمناسبة خاصة – ربما تكون عاطفية – رغم العادات والتقاليد التي تحرم الحبَّ العلني،
وبعضهم يقولون شعرا في الأفراح ومواسمِ الحصادِ والأعياد والختان،
وكلُّ ذلك قصيدةٌ وغناء
المكانُ يتوسدُ جبالا شاهقة ويتكيءُ على وادٍ تتراصُ الأرضُ فيه مدرجات وكلُها مهيأةٌ للزراعة،
والأشجارُ غيرُ المنتجةِ تنتشرُ على سفوحِ الجبالِ وأعطافِ الركائب.
كنتُ أحبُّ الأفراحَ وأشتغلُ فيها بكلِّ طاقتي وأمارسُ العرضةَ كغيري من أقراني
يستهوينا المزمارُ والزيرُ ونرقصُ حتى تنفضَّ العرضةُ ونحن بين إغمائةِ الجسدِ ويقظةِ المشاعر .
في الابتدائية كنت أبيع التوت على طلاب المدرسة
واشتغلت في محل بنشر
وفي ورشة ميكانيكا
ثم سائق تاكسي
وعملت على عربة المسعى في الحرم
وكنت طوال مسيرتي العلمية أعمل بجانب دراستي
……
ثم قال عن مراحل تعليمه كانت المدرسةُ نقطةَ تحولٍ كبرى،
حيث كنتُ أسمعُ القصيدةَ شفاهيا وأتراقصُ معها في انتظام مع الرجالِ والأقرانِ كحباتِ العِقد.
والآن أقرؤوها وحيدا في كتابِ الأناشيدِ ثم في كتب النصوصِ الأدبية..
أولُ كتابٍ قرأته خارجَ المنهجِ حينما كنت في السنةِ الخامسة الإبتدائية..
حيث كان مدرسُ مادةَ المطالعةِ يحثُنا ويشجعُنَا على القراءة.
وقد اشترطَ على من يرغب في استعارةِ كتابٍ من مكتبةِ المدرسةِ أن يأتي بعد يومينِ ليتحدثَ عن كلِّ تفاصيلِ الكتابِ ومضمونه.
فأخذتُ مجموعة قصصية بعنوان ” أطفال الغابة”
وكم أنا ممتنٌ لهذا الكتابِ ولمؤلفهِ،
ذلك لأنه حببني في القراءةِ فلم أتوقفْ عنها طيلة حياتي.
وحين التحقت بمعهد الباحة العلمي كنت أشتري الصحف والمجلات بما أدخره من مصروفي..
كنت أقرأ كل شيء في الصحيفة والمجلة..
وكما أن للمعهد العلمي تأثيرا قويا في تحصيل الكثير من الدارسين فيها كان أحمد قران أحد هؤلاء ذكر ذلك بقوله:
كان المعهد بمستوى الجامعة حيث درسنا شرح ابن عقيل والشعر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي والحديث
كنت أحفظ النصوص الشعرية رغبة ورهبة
وحول أولى قصائده قال:
وكتبت أولَّ قصيدةٍ وأنا في الثالثة المتوسطة
كانت تلك القصيدة كبيت العنكبوت يراه العنكبوتُ صرحا متماسكا
ويراه غيره مجرد خيوط هشة..
وحين انتقلت إلى جدة لإكمال المرحلة الثانوية ثم الجامعية كانت نقلة كبرى غيرت كثيرا في التعاطي مع القراءة ونوعيتها وملامح الناس والأزقة وأفق البحر والنساء والأزياء والألوان..
جدة التي لم أستطع كتابتها لأنني أعتقد أنها أكبرُ من قصيدة وأجملُ من رواية وأشهى من نشوة.
ورغم أن إقامتي في جدة وعشقي لها حد التماهي معها إلا أن تفاصيل القرية تظل تسكنني
……
وحول بدايته في كتابة الشعر بشكل مستمر وصدور دوواينه الشعرية قال:
كتبت كغيري من الشعراء قصائد كثيرة،
بعضها متناثر بلا هوية وبعضها كانت تحتاج إلى قليل من الوعي و التوجيه.
وفي الجامعة بدأت نشر قصائد بين بين في الصحف.
وبعد أن تخرجت من الجامعة بدأت أخطط لإصدار ديواني الأول ” دماء الثلج ” وكان لنادي جدة الأدبي الفضل في ذلك عام 98 م، كان هذا الديوان بمثابة النافذة الأولى التي أطل منها على المتلقي،
كانت قصائدُه متباينةَ المستوى لأنها تجربةٌ أوليةٌ لم تتحدد معالمها،
ثم صدرد ديواني الثاني بياض عام 2003م والذي خطوت فيه خطوات كبيرة نحو بلورة قصيدة مختلفة عن سابقتها،
وفي عام 2009م كان الحدث المهم بالنسبة لي وهو صدور ديواني ” لا تجرح الماء ” الذي تجاوزت فيه التجربتين السابقتين في الشكل والصورة والمضمون، وقد وجد صدى واسعا على مستوى الوطن العربي إن على مستوى النقاد أو على مستوى الشعراء أو المتلقي وكان للطبعة الثانية عن قصور الثقافة بمصر دور في انتشاره بشكل كبير داخل مصر وبعض الدول العربية كما كان لدار رياض الريس ومن بعدها دار ضفاف ثم دار الانتشار دور في توزيعه على المستوى العربي..
وعن اشتراطات الكتابة الإبداعية لخصها في عدة نقاط ذكر منها:
أدركت أن القراءاتِ المتعددةَ والمتنوعةَ هي ركيزةٌ ثانيةٌ بعد الموهبة في التجلي الإبداعي
الشعر كائن حيوي لا يعرف السكون ولا يستسلم للظروف ولا تعيقه الأحداث.
الشعر أداة لتغيير مناخ الأزمنة وتضاريس الأمكنة يحيلها من الجمود الى الحركة ومن البرودة الى الدفء.
والشعر في منتهاه أسئلة جوهرية للوجود يستكنه علاقة الحضور بالغياب، المجهول بالمعلوم، الثابت بالمتحرك.
و التجربة الإبداعية عمل تراكمي من القراءاتِ والترحالِ والخبرات والنقاشات والكتابةِ بكل أشكالها..
فالإبداع رؤية الإنسان للحياة والآخر وللظواهر المختلفة بطريقة مبتكرة
وكي تكون مبدعا لابد أن تتوافر فيك اشتراطات:
الموهبة
والثقة بالنفس
والثقافة
والقدرة على الاستنباط
والجرأة
والمجازفة
والفضول.
وإذا كان (برونر) يعرف الإبداع بأنه : ( العـمل أوالفـعل الذي يؤدي إلى الدهـشة والإعجاب ) .
فإنه أيضا القدرة على التخلص من السياق العادي للتفكير، وإتباع نمط جديد من التفكير.
الإبداع هو نظرة الفرد لظاهرة ما برؤية مغايرة عن الآخرين والإحساس بعمقها والوعي بأبعادها.
الشعر ليس وحيا
والشاعر ليس نبيا
وليس للقصيدة طقوس استعداد لكي تأتي..
القصيدة لا يأتي بها فنجانُ قهوة أو خريرُ ماء أو تغريدُ عصفور أو إنكسارُ أمواج أو غيمةٌ ممطرة..
القصيدة حالة لا شعورية لا وقت لها ولا زمن لها ولا مناخ لها ولا طقوس لها..
لهذا حينما يقول شعراءُ كبار إن من أعظم قصائدهم تلك التي كتبوها على علب الدخان أو أوراق المناديل وهذا يعني أن لا طقوس مؤطرة للقصيدة..
كتابة القصيدة تمر بعدة مراحل:
الفكرةُ التي تلهم الشاعر وهي اللحظة الشعرية التي تتغشاه
ثم الكتابةُ الأولى للقصيدة وهي بناء جسد النص
ثم رسمُ ملامح القصيدة
ثم مراجعتها وتدقيقها حتى تخرج من ملكيته فتصبح من ملكية الناس والتاريخ.
كل قصيدة تقراؤها
وكل ملتقى ثقافي تحضره وتستمع إلى ما فيه من تجارب عميقة كانت أو ضعيفة ستزيد من خبراتك وتعمق تجربتك وتعيد تكوين رؤيتك للأشياء وتفاصيلها وهو ما يقودك إلى كتابة نص جديد بروح جديدة.
القصيدة ليست وحيا وليست واقعا
إنها بين الحلم و الحقيقة
بين الوحي والإلهام
بين النظر من ثقب باب صغير
وبين الدخول من باب كهف.
وعن مدى تأثره بالشعراء العرب قال:
ولأن الشجى يبعث الشجى فقد كان للمتنبي وأبي تمام والمعري وامريء القيس وأحمد شوقي وغيرهم من شعراء العربية على مختلف المراحل والأغراض الشعرية ثم شعراء التجربة الشعرية الحديثة المتمثلة في قصيدة التفعيلة دور في التكوين الأولي للقصيدة لدي
وكانت المعلقات منجما للشعر..
وكانت قصيدة مالك بين الريب:
تَذَكَّرتُ مَن يَبكي عَلَيَّ فَلَم أَجِد
سِوى السَّيفِ وَالرُّمحِ الرُّدَينِيِّ باكِيا
خُذاني فَجُرّاني بِبردي إِلَيكُما
فَقَد كُنتُ قَبلَ اليَومِ صَعباً قيادِيا.
واليتيمة: لدوقلة المنبجي:
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا
وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ.
والقصيدة الوداعية لابن زريق البغدادي:
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ.
والقصيدة العتابية لابن زيدون:
أضْحَى التّنائي بَديلاً منْ تَدانِينَا،
وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا
شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا
نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا،
يَقضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا.
كانت هذه القصائد وأخريات مثلها الأوتاد التي قامت عليها كتاباتي وتجربتي
كان الشعراء و كانت القصائد الوقود الذي يشعل جذوة الشعر والجمال والحب والشجاعة والفرح والتأمل عندي.
ولم أتعال على قصيدة مهما كان شاعرها مغمورا
ولا قللت من شاعر مهما كانت قصائده ضعيفة.
وكان لأم كلثوم وفيروز وطلال مداح وابتسام لطفي أثرا في تغير الذائقة السمعية عندي
كما كان للسفر دور في تنوع الذائقة اللونية
لقد أحببت اللوحة التشكيلية كما أحببت الرواية وأحببت الآلات
أفِضْ يا رفيقي..
أفِضْ في شجونِكَ حتى ترقَّ الهواجسُ،
علَّ الذي خِلتَه قابَ قوسين يحنو عليك،
ولا تصطفِ العابرين،
ولا من يلمّ شتاتَ الحديثِ،
ففي البوحِ يكمنُ سرُّ الوشاياتِ،
في البوحِ تنكشفُ الروحُ للروحِ،
تدنو الملذّاتُ من منتهاها،
و تلتَفُّ ساقٌ بساق.
كما أحببت هسيس الأشجار..
وأحببت البحر كما أحببت الجبال
فكان كل ذلك رافدا من روافد القصيدة.
القصيدة حينما تأتي تضطرب النفس
وتشتعل الحواس
ويسرح الذهن
وتتقد المشاعر
ويعيش الشاعر مع هذه الحالة وكأنما يصعد جبلا أو يعبر بحرا
أو كأنما يقطف وردة أو يتهيأ لموعد غرامي
لكنه يظل في كل ذلك في حالة من التراسل اللا إرادي مع طرف مجهول لا يعرف أين موقعه ولا يعرف ملامحه ولا ماهيته
يتحكم فيه
ويهبه طرفا من جملة شعرية
ويمنع عنه أخرى
وهو بين ذلك كله يحوم حول قبس من نار يحاول أن يطفئها بالانتهاء من قصيدته.
الشعر حالة وجودية لا تعترف بالعمر
ولا بالمستوى أو التخصص العلمي ولا بالبيئة الحاضنة.
ليست هناك تجربة ناضجة بالكلية
ولا قصيدة مكتملة
ولا شاعر امتلك كل أدوات الشعر
ومتى ما رأى الشاعرُ أن تجربته قد اكتملت ونضجت وأنه تجاوز تجارب الشعراء الآخرين
فلابد له حينئذٍ من أن ينتحر وإن
يموت.
في نهاية المسامرة قرأ الزهراني بعض نصوصه الشعرية واستمع إلى المداخلات والنقاشات من الحضور
>