ارتبطت الرواية الأدبية بالوباء منذ القدم حيث ظهرت رواية ( الطاعون ) للفرنسي ألبير كامو في عام 1947 م والذي أسس روايته على الطاعون الحقيقي الذي اجتاح العالم متتبعًا تصاعده المأساوي في مدينة ( وهران ) الجزائرية واصفًا حال المدينة وأحوالها ورباطة جأش سكانها في مواجهة الطاعون ، وحاصدًا في الوقت نفسه منفعة استثنائية تمثلت في حصوله على جائزة نوبل في الأدب .
ثم جاء الإيطالي جيوفاني بوكاشيو الذي وجد في الطاعون ما يشبع نهمه الروائي ، فتجلى الطاعون في رائعته ( الديكاميرون ) ، أو ألف ليلة وليلة الإيطالية ، كما يحلو لكثير من الكتاب العرب أن يسموها .
وبدوره يرتقي بوكاشيو في الحكاية عن الطاعون الحقيقي في سلسلة متتابعة من المستويات الرمزية التي يجري سردها خلال عشرة أيام ؛ هي الزمن الروائي ، والزمن الواقعي الذي حصد فيها الموت الأسود أرواح 25 مليونًا من الأوروبيين ، أي ربع السكان في النصف الأول من القرن الرابع عشر ، ما دفع بأبطال الأحداث إلى الهروب من ( فلورنسا ) إلى الريف بحثًا عن النجاة !
ويعد الأديب نجيب محفوظ من أكثر الروائيين توظيفًا للأمراض والأوبئة في أعماله ، حيث رصد تفشي أمراض بعينها كالسل والطاعون ليكسبها أبعادًا جديدة ؛ ففي روايته ( الحرافيش ) استطاع محفوظ أن يطرح واقعة انتشار الطاعون في القرن الثامن عشر الميلادي طرحًا غير مألوف حيث عالج الواقع من خلال عمق فلسفي أضافه باقتدار على واقعة تاريخية مأساوية محولًا إياها إلى نوع من المحاكمة الفلسفية لفكرة العدل !
وفي رائعة غابرييل ماركيز ( الحب في زمن الكوليرا ) يظهر الوباء كوحش يدمر كل ما يقع تحت يديه هناك في منطقة الكاريبي حيث تجري أحداث الرواية ، وينجز ماركيز في سردية ساحرة مطولة هجائية متعددة المستويات والأبعاد لذلك الواقع التعس والظروف القاسية التي تحيا فيها منطقة مهملة ، مهمشة ، تفترس أهلها الأمراض والأوبئة .
ويلتفت غريب عسقلاني لكل تراث الكوليرا وهو يكتب روايته ( أولاد مزيونة ) التي يستثمر فيها الوباء ليقدم التغريبة الفلسطينية برؤية جديدة موظفًا فكرة الوباء المرادف له ، أي : الاحتلال حين انتزع الاحتلال البركة من كل شيء ، وشلَّ حركة الناس ؛ فهجر الناس البيوت والأسواق وتوزعوا في السوافي والكروم عند أعتاب البحر هاربين من الظلم والاستبداد !
ويستذكر علاء الديب حالة مشابهة لهذه الحالة في روايته ( زهر الليمون ) على لسان الشيخ حسين الذي يستعيد رحلته المفعمة بالألم والمعاناة ، وفقدانه زوجاته وأبنائه جميعًا في وباء الكوليرا ، حيث يسبر المؤلف غور الشخصية مصورًا وحدتها وسأمها وحزنها وما يحمله الفقد من مشاعر الألم والوحدة التي تفري الروح فريًا .
وفي ( دعاء الكروان ) لطه حسين إدانة لكثير من مفردات الواقع الاجتماعي ، وتحذير مما يمكن أن يحدث على مستوى الأخلاق والمجتمع من تفسخات وارتباكات في حال انتشار الأمراض والأوبئة .
ومن الطريف أن الوباء هنا اُستخدِم لإخفاء الجريمة ؛ جريمة قتل ( هنادي ) التي ارتكبها الخال تحت دعوى غسل العار ، وإلصاقها في ظهر الوباء عندما سألته أخت هنادي عنها .
ووجد إبراهيم نصر الله ضالته الروائية
في قرية ( العرضيتان ) الواقعة شرق القنفذة حين بنى من خلالها أحداث روايته ” براري الحمى ” وشخَّص فيها أحداثًا معيشية وثقافية وصحية عايشها آنذاك حين كان معلمًا بها قبل عشرات السنين .
والحمى أيضًا كانت المتكأ التاريخي للروائي علي الحبردي في روايته ( حمى قفار ) ، وقفار قرية في منطقة حائل التي شهدت واقعة غريبة حيث مات جميع أهلها بسبب مرض قيل : إنه الحمى ، وصار يعرف لدى الناس بحمى قفار .
وهكذا فقد كانت الرواية حاضرة في مشهد الوباء الكئيب ، راصدة أحداثه ومراحله ومآسيه ، وموثقة حقبًا تاريخية مهمة في حياة البشر ، ومقدمة الدروس والعبر للناس عبر الزمان في حلل أدبية قشيبة تعمق فيها الكُتاب فأظهروا حقائق مؤلمة عن الأوبئة ، ومزجوها بأفكار وأبعاد فلسفية جديرة بالوقوف والتأمل .
ماجد محمد الوبيران>