الأزمات ومعادن الشعوب ( قراءة في تعاطي المـجتمع السعودي مع أزمة كورونا على الصعيد التعليمي)

تظهر المعادن الحقيقية للشعوب وقت الأزمات . هذه حقيقة تاريخية لا جدال في صحتها؛ فإنَّ الأزمات ـــــ على ما تشكله من عوامل ضغط على جموع المواطنين ـــــ تغدو في الوقت ذاته مصانع لتخريج أصحاب الهمم من المواطنين الذين يستحقون أقصى درجات التقدير والتوقير على حد سواء .
وقد كانت (جائحة كورونا) مثالًا حيًا لتلك الأزمات التي لم يسلم من عِثـارها قطاع واحد من قطاعات المجتمع، وربـما كان قطاع التعليم من أبرز القطاعات تأثرًا بهذه الجائحة؛ نظرًا لطبيعته التي تعتمد على تجمع أعداد كبيرة من الطلاب بين جنبات مبنى واحد، الأمر الذي دعا حكومتنا الرشيدة إلى البحث عن بدائل أخرى لفكرة التعليم التقليدي .
وليس بعيدًا عن سياق الحديث ما تقوم به المملكة من جهود تستحق الإشارة والإشادة في الوقت ذاته، بالرغم من تضرر قطاع التعليم من آثار الجائحة، فإنَّ المملكة كانت في حالة حرب؛ إذ كانت تسعى من خلال خطتها الاستراتيجية إلى المواءمة بين استمرار العملية التعليمية من ناحية، والحفاظ على الإنسان بوصفه حجر الزاوية في بناء المستقبل من ناحية أخرى.
ولأجل ذلك كانت وزارة التعليم على أهبة الاستعداد من خلال تجهيز العديد من سيناريوهات مواجهة الأزمة، ولعل أبرز ما عاد على العملية التعليمية بـمردود إيـجابي ما جهزته الوزارة من خطة التعلم عن بعد، وهي خطة قامت على تصور مغاير تـمامًا للواقع التعليمي التقليدي الذي ألفنا التعاطي معه منذ عقود بعيدة، حيث كانت بداية التعليم في المدارس بداية متواضعة، ثم تطورت ونـمت وآتت أكلها بالتعاون مع قطاع التعليم الأهلي الذي يحمل مع المؤسسات الحكومية عبء الحفاظ على مكتسبات التعليم النظامي الذي أرسيت قواعده منذ عهد بعيد .
لقد كان الانتقال ــــ إذن ــــ إلى نظام تعليمي جديد ضرورة ملحة فرضتها تحديات المرحلة، وتطلبتها الظروف الراهنة، ومن ثم كانت فكرة التعلم عن بُعد نـموذجًا رائدًا يدل على تكامل الجهود الحكومية؛ بغية الحفاظ على بنية التعليم التي تشكِّل إحدى قواعد المستقبل في هذا البلد الأمين؛ فكانت فكرة التعليم عن بعد تجسيدًا للثورة التقنية التي يعيشها المجتمع السعودي الذي يـجني ثـمار التحولات الرقمية التي وضعت القيادة الرشيدة أسسها منذ وقت ليس بالقصير .
فكان إطلاق المنصات التعليمية مثل “مدرستي” بجانب القنوات التدريسية مثل قناة “عين” شواهد حية تجسد قدرة المجتمع السعودي على استيعاب التحول الرقمي واستغلاله للخروج بأقل خسائر من جائحة كورونا، وهو ما يعيدنا إلى صدر المقال، حيث الإشارة إلى دور الأزمات في بيان معادن الشعوب .
لقد توزع العبء التعليمي وقت الجائحة على ثلاثة أطراف :
الطرف الأول : يـمثله فريق عمل الحكومة ممثلًا في وزير التعليم ومن يعمل معه من خبراء تربويين ومسؤولين تنفيذيين. وقد اتسم عمل هذا الفريق بوضوح الرؤية وعمق التعاطي مع مستجدات الأزمة، ومن ثم كانت البدائل جاهزة والسيناريوهات متعددة لمواجهة هذه المستجدات بحلول واقعية .
بَيْدَ أنَّ الإنصاف يقتضي الإشادة الواسعة بالشفافية والتنظيم اللذين وسـَما الخطاب الحكومي ممثلًا في خطاب وزارة التعليم في أثناء الأزمة، فقد كانت في قلب الحدث من خلال التقارير اليومية والمتابعات التي اتسمت بالجدية الواضحة في تطبيق تجربة التعلم عن بعد، كما وفَّـرت الدعم التقني اللازم؛ ليكون عمل المنصة التعليمية مثمرًا بما يجعلها ضمانة لاستمرار التعليم والتعلُّم في الظروف المتغيرة التي قد تُلم بالمجتمع السعودي لاحقًا.
وأما الطرف الثاني : فيمثله المعلمون الذين كانت استجابتهم للمتغيرات الراهنة تنم عن أعلى درجات المسؤولية، وتدل على شدة الوعي بالدور المنوط بهم في بناء المجتمع، فكم من معلم تابع دروسه، وهو في المستشفى يتلقى العلاج، وكم من معلم كابد بنفسه مشقة تعليم طلابه كيفية تلقي التعلم عن بعد في القرى والهجر والجبال، وكم من معلم أنكر ذاته في سبيل نجاح التجربة؛ فبذل وقته وأنفق من ماله من أجل تسجيل الدروس، وتقديم المنتج التعليمي لطلابه تارة على الهواء، وتارة مسجلًا .
وقد رأينا تفاعلًا إيجابيًا من الطلاب والطالبات مع هذه الجهود المباركة، التي ليست بالشيء الغريب على ورثة الأنبياء الذين ينفقون أعمارهم طواعية وحبًا ليبثوا النور في عقول طلابهم، وهو الـجـهد الذي لا ينساه المجتمع للمعلمين الذين هم قادة النهضة، وبناة الأجيال .
وإذا كان أمير الشعراء قديـمـًا أرشد الطالب بالوقوف للمعلم تبجيلًا وتقديرًا، فإن المجتمع كله يجب أن يأتم بنصيحة أحمد شوقي، فيقف للمعلم اعترافًا بفضله وإعلاءً لقدره :
يا شمعةً في زوايا “الصف” تأتلق ** تنير درب المعالي وهي تحترق
لا أطفأ الله نورًا أنت مصدره ** يا صادق الفجر أنت الصبح والفلق
وقد رأيت بعيني نماذج مشرفة من المعلمين الذين يبذلون جهودًا جبارة في تقديم خدمات تعليمية تطوعية لطلابهم خارج إطار المنهج الدراسي، كمن يمنح الطلاب وقتًا إضافيًا في أيام الإجازات؛ لتقديم العون حول اختبارات القدرات التي ينظمها مركز قياس، وهو ما يستوجب الثناء والشكر من كافة قطاعات المجتمع؛ لقاء ما يقدمونه من خدمات جليلة صورها التوجيه النبوي الكريم :
” إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليُـصلون على معلم الناس الخير “، ( رواه الترمذي).
وأما الطرف الثالث : فهو المواطن السعودي الكريم الذي قام بدوره في حمل العبء ماديًا ومعنويًا وتربويًا. أمَّا العبء المادي، فقد تمثل في توفير الأجهزة الذكية، وما يلزمها من اتصال بالشبكة العنكبوتية؛ تسهيلًا على الطلاب ( الأبناء)؛ من أجل متابعة الدروس. وأما العبء المعنوي، فقد تمثل في التشجيع المستمر؛ لدعم التجربة، والسير قدمًا في مواجهة الجائحة بطرق غير تقليدية تضمن سلامة المجتمع، وفي الوقت ذاته، تضمن استمرارية بناء الأجيال علميًا وثقافيًا .
وأما الدور التربوي، فهو يتجلى في المتابعة المستمرة مع إدارات المدارس والنهوض بدور التنظيم والترتيب خاصة لأطفال المراحل الأولية من التعليم الابتدائي، وهو الدور الذي نهضت به الأمهات على خير وجه، وهنا لا يفوتنا توجيه الشكر لوزارة التعليم التي جعلت مواعيد بث الدروس في متناول الأم العاملة، حتى لا يفوتها الاضطلاع بدورها في إنجاح تجربة التعلم عن بعد، التي هي أشبه بالملحمة التي تضافرت لها في مجتمعنا كل عوامل النجاح .
إن الدور الذي قامت به الأسر من حيث المتابعة، وتوفير المتطلبات، والتواصل مع المدارس، وإبداء الآراء في تقييم التجربة، ورصد سلبياتها، وإيجابياتها، لهو من دلائل الوعي المجتمعي، والتحضر السلوكي اللذين باتا من السمات الواضحة لدى قطاعات عريضة من الشعب السعودي الكريم؛ فهو يسهم في تحقيق رؤية القيادة الرشيدة إسهامًا إيجابيًا، وذلك من خلال انـخراطه المخلص في المشاركة المجتمعية، ودعم كافة الجهود الوطنية التي تهدف إلى وضع المملكة في مكانها اللائق بها على الأصعدة كافةً، علميًا، واجتماعيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا .

بيدَ أن الطرف الثاني من أطراف معادلة النجاح لملحمة التعلم عن بعد، وهو المعلم يستحق وقفة خاصة في سياق هذا المقال من باب التقدير والتوقير .
وقد سمعت في تثمين دور المعلم مقولة أعجبني مؤداها : “أن غياب المعلم استلزم جيشًا من العاملين للقيام بجزء من دوره”، مثل: مهندسي التقنية، والمختصين في البث والتصوير، والإداريين، وأولياء الأمور؛ فكل هؤلاء الآن تتضافر جهودهم للقيام بجزء من مهمة المعلم .
وليس غياب المعلم هنا يقصد به التقصير في أداء مهمته، إنـما يقصد به ـــ فقط ـــ غياب ( التعلم الحضوري ) حيث المواجهة المباشرة بين المعلم وطلابه، وهو ما يدل على ثقل التبعة الملقاة على كاهل المعلم، وهو يحملها وحده طائعًا، راضيًا، مـختارًا، متبسمًا، رغم ما يحيط بظروف عمله من مصاعب اجتماعية واقتصادية .
ولعل هذه الجائحة التي تـمر بها مجتمعاتنا تكون فرصة لإعادة النظر، والتقييم لدور المعلم، ومن ثم إعادة الاعتبار لمكانته التي تراجعت لصالح فئات أخرى من المجتمع لا تستحق ما يوجه إليها من تقدير مادي ومعنوي؛ لأن المعلم هو حجر الزاوية في بناء أجيال تعرف معنى الوطن، وتبذل أرواحها في سبيل بنائه، والحفاظ على مكتسباته .
د. مرعي بن محمد آل عريعر الوادعي تعليم ظهران الجنوب
24/ صفر/ 1442هـ>

شاهد أيضاً

جامعة الملك خالد تستضيف ندوة “عسير منطقة الطهي العالمية”

صحيفة عسير _ أبها انطلقت أمس فعاليات ندوة “عسير منطقة الطهي العالمية”، التي تستضيفها جامعة …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com