إذا أردت أن تختبر إنساناً حول ما إذا كان يملك قلباً حقيقياً أم لا، فمرره على مصطلح العنف الأسري وشاهد كيف يُعَرِّفه، وبماذا يعبر عنه؟ قصص العنف الأسري تعدّ حلقات مكررة لتقطيع القلوب الحية، وهي قصص تسكن غرفاً منزوية في منازل آيلة للسقوط الإنساني إن لم تكن سقطت بأكثر من طريقة! دائرة التأثر في مثل هذه القصص ضيقة جداً وتنعدم بعد أن يتبرع المتحدثون دوماً بأن «الفاعل» لا يعدو كونه واحداً من اثنين، المتهم «مريض نفسي»، والآخر «مدمن مخدرات»، وهما من نرمي عليهما جلّ فضائحنا الاجتماعية، وقصصنا الموجعة، ونضعهما سريعاً في السطر الأول لأي حديث منبري عن تفاصيل «قصة عنف».
الجرح الأكبر في قصص العنف لدينا أن تقاليد اجتماعية بالية وأنظمة مطاطية هي من تتصدى لأية حالة بوح جريئة، وتقرأ العنف من زاوية ذكورية بحتة، وبهذا فلا معنّف يمكنه أن يتنفس بحرية وبثقة بأن القضية ستحسم له – مع توافر الدلائل والإثباتات واكتمال القرائن – إلا بشق الأنفس، وبمشوار طويل مع طاولات التحقيق، ومواعيد جلسات المحاكمة.
جرائم العنف الأسري موجودة وإن كانت تعرض في البدء بحماسة وحرقة من أية جهة وقفت عليها، إلا أن الحماسة تتوقف بعد وقت قصير، وتدفن القصص برمتها، وقد تدفن معها أجساد مظلومة، ذنبها الوحيد أنها لم تجد من يستمع لها، ويتأكد من احتراقها.
في غرف قصِيّة داخل مجتمعنا تُقْهر أنفس يومياً، وتزهق أرواحها بالتدريج وبفعل فاعل، تأمل بالموت حلاً، لأن الموت كما يقول أفضل المتشائمين وأسوأ المتفائلين «الحرية الدائمة»، وإن تفوهت هذه الأجساد بكلمة ذات اليمين أو ذات الشمال، فهي بين أمرين متساويين في المرارة: إما أن يكون ما حدث خارجاً عن السيطرة بفعل المرض والإدمان، وبالتالي يكون الصبر حلاً وحيداً، وإما أن تعود الأمور كما كانت عليه بشيء من اللطف في القسوة، وإعطاء أوقات راحة واسترخاء بين كل وجبة عنف وأخرى.
تموت بعض الأجساد يومياً، لأنها برفقة من يشاهد في عضلاته ويرى في شواربه جبروتاً وسلطة تخوّل له أن يفعل ما يريد فيمن حوله، يعرف من أدوات زرع الحب: العقال والأسلاك المعدنية والخشب – أي ما خف وزنه وكبر ألمه – وإن أراد تطوير هذه الأدوات بما يضاعف مساحة الحب استعار السكين والساطور والحرق والكي!
لا نجرؤ على نشر وإعلان العقاب الرادع، لأن هناك من يعتبر هذه القصص شأناً اجتماعياً خاصاً أكثر من كونها مواجع ومآسي تطحن القلوب، وتقتل مشاعر الإنسان الحي النبيل، وتظل رسالتي لمن يشاهد أو يعرف مهزوماً ومجبوراً ومنكسراً ومفجوعاً وراء قصة عنف «لا تتشابه معهم في قسوة الصمت، هم صامتون من الموت السريع فلا تصمت على الموت البطيء، لتكن جرئياً في الكشف عن كل من يقترف ذنباً أو كارثة في حق أسرة بمختلف أطيافها أطفالاً وشيباً وشباناً، نساء ورجالاً، لا تدافع عنه بالإدمان أو المرض النفسي أو التخلف العقلي، فهؤلاء لم ينحصر تفكيرهم في زاوية العنف وحسب، وابحث لي عن سبب واحد لاختفاء كل هذه الأمراض مع زملاء العمل واستراحات الأصدقاء وأفراد العشيرة والقبيلة».
أخشى أن يأتي الزمن القادم ونحن بحاجة إلى عنف، لتصل قضايانا إلى الأدمغة والعقول، كي نتفاعل معها، وأخشى أن يأتي القادمون من الجيل وهم مهزوزون بلا أمل أو طموح، وربما يأتون مشبعين بحب الجريمة والرغبة في الانتقام.
علي القاسمي>