صحيفة عسير _ سعيد محيا:
ما من تحية تصلح لعسير، وفي عسير، أكثر من المطر، نرحب فتقول لمن يأتينا؛ “والله إنك مثل امّطر على حاجته ” ونقول “مرحبا تراحيب المطر”، هكذا ابتداء الكاتب والأديب والمثقف عبدالله ثابت ورقة (البيت، الشجرة، والجبين)، ضمن فعالية “عسير حلة العمران” المقام في قرية العكاس التراثية بتنظيم من الهيئة العامة للسياحة والآثار وجامعة دار الحكمة، على أمل أن يذهب في وقته ما أمكن من دهشة وتفاصيل وثراء المكان، ولو على سبيل إشارات صغيرة. يعلقها كالأقراط في الصوت والصورة ويذروها في خصوبة الحقل، تواجدا وحنينا إلى اللون والحناء، للقص والقط، لاصطفاف البيوت كتفا بكتف، وسبيلا يفضي لسبيل، تحول بها البهجة الغامرة، والعناء والغناء السخي ممتثلين للإيقاع ووثب الرقصات، حيث أن قرى عسير، تكاد كل حجرة وشجرة وميزاب ولون وسنابل ونشيد وألفة بيت.. تعلو إلى الجبين ترسم أدق حكاياه، وتمنحه تعبيرا خاصا وبالغ الأثر.
واختار ثابت الحديث عن ٧ مكونات، مشيرا إلى أنها “ليست هي فحسب ما شكل وجدان القرى ومفرداتها، لكنها تمنح الصورة علاماتها وبصمتها” تاركا مقاطع فيديو وصور وإيقاع، للذهاب بعمق للزمن والنكهة إلى هناك في أقاصي الروح، حيث جذوة المكان ورائحته.
وأضاف “إنني كابن لهذه القرى، أحفظ وأحتفظ بعفويتها وفتنتها في صميم قلبي، أتمنى لو أشبك ساعدي بساعد كل واحد من الحاضرين لهذه الفعالية لنتهيأ لهذه السمرة ونبدأ في الخطوة”.
التدوين
في المكون الأول، تحدث عن التدوين، قائلا “أعني بالتدوين تلك اللغة الضمنية الخاصة التي كانت تتغلل في كل شيء بهذه القرى، ف “القص” و”القط” ليسا شكلا ولا رسومات فقط، بل كانت كتابة تعبر بها المرأة العسيرية عن حياتها، وتسجل في القط يومياتها، بما فيها من أسرارها وأيام صغارها وفرحها وغمها، ولا يوجد قط يشبه آخر، لأنه لا قصة تشبه أخرى، كل امتداد أو انحناء آو نتوء.. يفيض بمعنى ولحظة ما، مثلها حتى الشطوب في عصي الرجال ومعاولهم والصخرات في أطراف زروعهم أو ديانهم، مثلها حتى الشطوب التي يوثقون بها اكتمال بناء أو حدث أو شيء ما في أبواب بيوتهم، ،هكذا، فكل علامة تخبيء وراءها قصة، كل علامة لغة وتوثيق شخصي وخاص للحياة”<
> الحقل
أكد ثابت في المكون الثانية أن الحقول هي المركز الأساس الذي تقام على جنباته البيوت، وتتشكل القرية بكاملها، وما يحدث في الحقل، منذ حرثه وبذره، حتى حصاده، ينسرب إلى السلوك العام وتتراكم عبره صرامة القيم، ورهافة الوجدان وتوهج التجربة وتأخذ الشخصية – امرأة ورجلا على حد سواء – نضجها وانصهارها في الحياة اليومية بقدر استجابتها ودوران حياتها حول هذا المركز الفاعل.
اللون
أشار إلى في المكون الثالث إلى أن “تعدد اللون الذي تحفل به القرية في محض طبيعتها يفضي إلى حياة ملونة موازية، كما تكسو البيوت وأدراف النوافذ ووجهات الأبواب والأواني والمناديل والعصائب، تكسو الأجساد فتشع في كفوف النساء وأقدامهن، ولحى المسنين، وأعمق من هذا.. يخلق غنى اللون وتعدده في الحياة اليومية سعة وقبولا وتعددا في النفس والشخصية.. يجعل موقفها من نفسها ومن الآخرين والعالم أكثر رحابة وسماحة واستيعابا.
الصوت والإيقاع
نوه ثابت في المكون الرابع إلى أن “الصوت والإيقاع يدخلان في جوهر الطبيعة الريفية، لا شيء ليس له صوت في القرية، ولا شيء يتحرك فيها وفق الإيقاع، توالي المطر والوعود والريح والرياح والأشجار والقصب والطير والحشرات وثغاء الماشية وصرير الأبواب وضرب المعاول.. وغير ذلك، كل ما يؤلف عالما مذهلا من الأصوات والإيقاعات في داخل بطريقة يضاعها عالم فيزياء وطبيعة الجبل، إذ ترتد كل همسة مع صدها، فيصير الصوت صوتين، ليخرج هذا الزحام الصوتي على هيئة نشيد في الحقل والبناء، وفي رقصاته الشعبية.. وكأن لعب “الدمة” في قرى عسير، بحركته وانفعاله وقفزاته امتداد للتكوين الجبلي الجامح في طبيعتها.. وكأن “الخطوة” وشجنها وطربها وامتداد لوجه مقابل هذا التكوين.. ارتداد لوجه مقابل في هذا التكوين.
المسافة
يذهب ثابت في المكون الخامس نحو ما يظهر في عسير بجلاء من تلاصق بيوتها، قائلا “إن مداخل البيوت تفضي إلى بعضها، السبل ما بينها أقرب ما تكون، تمشي على سطح بناية لسطح الثانية والثالثة.. الحقول لا يفصلها عن بعضها سوى بضعة حجارة هنا أو هناك. هذا التداخل وانكماش المسافة لأضيق حدودها، وهذا خلق نسيجا شديد التشابك والثقة، ولذا فللكلمة قيمتها في هذه القرى، والكذب فيها عار، والخطيئة يصعب غفرانها.. لأنها إخلال بالثقة، وعبث بالمسافة، وتهديد للنسيج المتشابك”.
الاكتفاء
شدد في المكون السادس على أن الطبيعة الإنتاجية التي تقوم عليها هذه القرى يحقق الكفاية، وأن المحاصيل ليست وسيلة للاتجار ولا للثراء، بل للاكتفاء. مضيفا “في داخل هذه الحالة تتعمق الصلات الاجتماعية. فلا يسيطر عليها الجشع ولا الاعتداء.. هذه الكفاية التي يحققها له حقله وماشيته وبئر الماء وأعماله اليدوية، جعلت من سكاني هذه القرية قديما، وفي جوانب كثيرة مجتمعات مستقرة وسوية.. قد يعيش الواحد حياته كاملة ولم يغادر قريته إلا للضرورات الملحة.. كان مكانه يحقق كفايته، فلا يحتاج لمكان آخر”.
الحب
ويختم في المكون السابع بالقول “وكل ما ذكرته سلفا من المكونات، وما لم أذكره، يتخلق منه مكون بديع وآسر. إنه الحب.. خفّة المناخ وثقله، طبيعة القرية والجبل، روائح التربة الندية والشجر، جعلت الحب يملأ المكان، يشد اشتباك السواعد في الحقل والسمر، يزيد اللون في البيون والجسد والزينة، يشغل القلوب ويعمر الحكايات، إن الذين كانوا قد ولدوا في هذه القرى ونشأوا فيها، أو عاشوا بها زمنا.. دخلتهم هذه المحبة التي تتقد في كل موطئ قدم وتحت كل حصاة، فأحبهم المكان وأحبوه “.
ويزيد “خالد الفيصل سمي نفسه بالعسيري، أحب عسير وسودتها وخطوتها ونادى “يا سحايب سراة أبها”.. إبراهيم رجب كتب “شفت أبها”.
>