يمكن أن نقول مطمئنين إن الخط التجديدي لدى الشاعر السعودي لا يختلف عن الحياة العامة التي شكلت المجتمع السعودي عموما ،وهو الخط الديني الذي نجده قد شكل الحداثة السعودية في عمرانها الاجتماعي حيث نجد المباني الجديدة مثلا تتشكل وفق الرؤية الإسلامية في إيقاعها الخارجي وفي تفاصيل إيقاعاتها الداخلية كما نعلم ،ولقد نلاحظ ذلك بوضوح حين ننظر إلى البيوت القديمة ومشربياتها المطلة ،وفناءاتها المنفتحة وبين تلك (الصندقة) التي أحيط بها العمران الاجتماعي الحديث في السعودية ،حيث نرى أن الأثر الديني قد ألقى بظلاله من خلال النموذج الآنف الذكر على الحياة الاجتماعية ،وإذا كان ذلك على مستوى العمران الاجتماعي ،فهو على المستوى الثقافي أكثر وضوحا . فبرغم صراع الثمانينات الذي صاحب ما عرف بالحداثة وظهور كتب مثل كتاب أحمد فرح عقيلان ، جناية الشعر الحر عام 1403هـ/ 1983م ) وكتاب عوض القرني ، الحداثة في ميزان الإسلام ، الذي صدرت طبعته الأولى1408هـ ، وكتاب عدنان النحوي ، الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره ، 2001م) الذي طبع في السعودية، وغيرها إلا أن الواقع أن الحداثة السعودية كانت لا تبتعد عن الإسلام -الذي يعد أكبر دافع للتجديد- ،وكان التجديد لديهم ينصب على الأنساق الشكلية ،أما في الدلالات فلك أن تقارن بين حداثة الثبيتي أو الصيخان وبين حداثة السياب والبياتي وأدونيس أو حتى حداثة محمود درويش ،ولعل من كتب بعض الرؤى التي تهاجم الشعراء السعوديين في عقائدهم من خلال الكتب السابقة أو مقالات صاحبت ذلك الصراع يحتاج في الواقع إلى مراجعة أفكاره ،وإعادة تقري النصوص التي بنى عليها أحكامه .
ويحضرني هنا موقف للثبيتي –عافاه الله –وهو يلقي أمسية شعرية في نادي أبها الأدبي ،ومن المعتاد أن صلاة العشاء تؤخر وتصلى جماعة في النادي ‘إلا أن الثبيتي بمجرد الآذان أصر أن يقطع الأمسية ،بل يقطع نصا شعريا بدأه لتؤدى الصلاة ثم عاد ليقرأ نصوصه . ومهما كان دافع الشاعر إلا أنه يقدم برهانا على أن الثبيتي الذي يعد واحدا -من أقطاب الحداثة السعودية – لا يبتعد عما نحن بصدد تأكيده .
وبقراءة البنية التكوينية للنص السعودي نجد أن ما يعوض أو يقابل غياب الأسطورة الفاعلة هو كثافة التناص مع التراث و مع القرآن الكريم تحديدا لدى أغلب التجارب السعودية بما يمكن أن يشكل قاسما مشتركا لدى كافة الشعراء ،ولعلي أضرب نماذج لذلك من مدارس تجديدية مختلفة ؛
ففي نص صالح بن سعيد الزهراني : ( البحث عن رفات القديس ) ، يقول :
كانت أرض الله سوادا وبياضا
والعالم منقسم نصفين
ساعتها عسعس في الكون ظلام دامس ، فدعا الداعي :
” يارب ” وفار التنور”
واحتمل الماء ” الزبد الرابي ” ، تاج القيصر ، والليل وأوهام
القديس ، وقلعة زيف كان يعشعش فيها “خفاش أعمى ”
ودعا الداعي : يا رب ” فغيض الماء.( )
وظاهر اعتناء الشاعــر بتوظيف النص القرآني في نموذجه : ( أرض الله ، عسعس ، فدعا الداعي ، يا رب ، وفار التنور، واحتمل الماء، الزبد الرابي،فغيض الماء ..) والنص يمضي على هذا النسق ممكنا لنصوص القران أن تشرق في ثنايا تجربته .
وفي نمـوذج آخر للشاعر جاسم الصحيح في ديوانه ( حمائم تكنس العتمة) ، يقول في قصيدة ( قانا) في ذاكرة الأرض ) :
أبدا يا سادن الوقت ..
فـ (قانا) اغتسلت منذ هزيعين بأنفاس الفدائيين .
صلت بالمحبين
وفاض التين والزيتون من تلك الصلاة الطهر..
كان الله لا يسمع من ( قانا ) سوى (فاتحة ) الوعد (وقداس) الوفاء الحر
ما أجمل (يوحنا) على مبسمها يتلو حروف (البسملة ) !!
عرفت كيف تعيد الأرز من رحلته عبر التراتيل
وتشفي الأرض من علتها بالحنظلة ( )
وتتضح اللغة التراثية الدينية التي تعامل بها الصحيح في هذه التجربة كما يتضح توظيفه المفردة القرآنية ( ، التين والزيتون ، فاتحة ، البسملة ، وهزيعين ، حنظلة ..)
فإذا ما اتجهنا للشعراء الأكثر حداثة وتحررا في الأداء الشعري سنجد مثلا الشاعر سعيد بادويس في ديوانه (نكهة الموت المصفى) يوظف التناص مع المفردة القرآنية بجرأة ذات مزالق ربما تودي بالشاعر إلى إشكاليات عدة، وظاهر من تجربته أن النص القرآني يحتل عنده مكانة عالية تبدأ من عنوان الديوان (نكهة الموت المصفى) ، وأن القرآن يشكل مرجعية أولى في بثه الشعري ، وهو يفتتح بجزء من آية قرآنية (ولقد كرمنا بني آدم) ويجعل أول نصوصه (مفتاح الجنة والنار ) الذي منه قوله :
(1) نفث
من رائحة الشبق البحري
ينفث ماء الدهشة
في الطين
المخبوء ليوم الدين
يزمجر عبر فياف
تتهادى في عليين
وما عليون ( )
ويلاحظ في هذا المفتتح حضور مفردات مشبعة بدلالات استوطنت في ذاكرة القارئ المسلم بأبعاد فكرية معينة ( نفث* ـ يوم الدين* ـ في عليين* ـ وماعليون* ـ) ونلاحظ المفارقة بين قداسة الارتباطات الفكرية لهذه المفردات وبين استخدام الشاعــر لها في إطار انسحابات رائحة الشبق البحري .
وفي ذات القصيدة تجد اتساق المفردة القرآنية في سياق تركيب مختلف (حرفا من تين ومن يقطين ـ ويصلصل في رحم الطين ـ فأقم عرجونك ـ ) كما نجده يفتتح ببسملة في نصه الذي حمل عنوان الديوان ( نكهة الموت المصفى) :
وبسملة
تضيئ جوانب الموت المصفى
تزدهي أجواؤه الثكلى
بحمرة ثغره ( )
>