رحم الله ذلك العصر الجميل، الذي كانت فيه «غمزات» المطربة السمراء (سميرة توفيق) – أيام الأبيض والأسود – تعدّ منتهى الإثارة، وإشعال العواطف، وتأجيج الجمرات الحرى في دواخلنا؛ خاصة حينما تغني بدلال لافت: «بيع الجمل ياعلي واشتري مهر إليّ»!!؛ ما حدا بمشاهد كبير السن شاهدها لأول مرّة إلى أن يصرخ: «جمل بس؟ نعلبوا اللي ما يبيع حلاله كله!!».
كان ذلك في الزمن الأحلى – رحمه الله -. الآن اختلف الأمر؛ ففي زمن (الفضائيات) التي تغمرنا ليل نهار ببضاعتها الرديئة، والتي تدخل في باب إفساد الأخلاق والذوق، يصبح الترحم على ذلك الزمن البعيد، الذي كانت فيه إطلالة المطربة السمراء فسقا وفجورا عند البعض، أمرا مبررا، وإعادة اعتبار لأخلاقنا، ولزمن شبابنا البهي. لقد بات التعري وبلع نصف حروف الهجاء «وقضم» الشفة السفلى.. أهم مؤهلات المطربة أو المذيعة المطلوبة في تلك القنوات!
أعرف أن الزمن لن يعود إلى الوراء، كما أنني أعرف أن التقوقع والانكفاء ليس حلا مثاليا لحالة كهذه، غير أنني أطالب هذه القنوات المعنية بأن تحترم بقايا أخلاقنا، وتربيتنا، وأن تقدم مواد خالية من الفجور والتعري والغنج الذي لا أعتقد أن مكانه قنوات تدخل منازل الناس، بل مكانه مكان آخر يذهب إليه من أراد برغبته (وذنبه على جنبه)! وفي تقديري أن للقنوات الفضائية التي ابتلينا بها – مع بلاوينا الأخرى – وظيفة توعوية وتثقيفية وإنسانية إلى جانب وظيفتها الترفيهية المناسبة، في زمن مضى كنت أتابع برنامجا لاختيار الأصوات الغنائية تبثه إحدى الفضائيات، ولفت نظري أن الصبايا المتنافسات قد بدأن بلبس أقرب إلى الاحتشام، حتى وصل بهن المطاف إلى التصفيات النهائية وهن شبه عاريات، وتساءلت: ما دخل العري في الصوت الجميل الذي يجب أن يكون المحك الأساسي للفوز؟ هل للتعري درجة في التقييم النهائي، أم ماذا يا أولي الألباب؟..
يوما بعد آخر تخرج علينا قنوات جديدة تلوث هذا الفضاء بما تبثه من مواد مبتسرة فيها استهتار بالقيم وتسطيح للوعي والثقافة، باسم الموروث الشعبي تارة، وباسم الترفيه تارة أخرى..
باختصار، المطلوب من القنوات العربية، التي تعربد في هذا الفضاء، أن تلتزم بالحد المعقول من أخلاقيات المهنة الإعلامية، وأن تقدم لنا مواد فيها فائدة، وتساهم في تنمية ثقافة المشاهد ووعيه وحسه الوطني، بدلا من أن تساهم في تسطيح الوعي، وضياع جيل نؤمل أن يكون سندا لهذه الأمة.. وما ذلك على الله بعزيز.