إدمان من نوع جديد

كان وجهه يميل للصفار، والتعب والإعياء والتشتت باديا على نظرته، وعلى ملامحه تجاعيد كثيرة. تكلم فأدهشني بمنطقه العجيب، ورؤيته للأمور من جانب مختلف.

قال لي: بفضلكم أصبحت مدمنا!.

فكدت أن أنهال عليه بقائمة النصائح، والتحذيرات، والحكم والعبر، التي تستخدم في مثل هذه الظروف، لولا أنه أكمل جملته: مدمنا على المقالات!. ثم أضاف: كنا في السنوات الماضية لا نسمع مقالا حساسا، ولا يوجد مجال لنشر أي ملاحظة قوية عن أحد المسؤولين، ولا عن أي فساد يدور حولنا. وكان كتاب المقالات يسيرون بأقلامهم بجانب (الحيط)، ليتقوا الشموس، والعواصف والأهوال، فسادت مقالات التطبيل والمجاملة، والنفاق، مما أحبطنا وجعلنا كمواطنين نعزف عن تتبع المقالات.

ولكنا ومنذ عدة سنوات صرنا نلحظ تغيرا نوعيا كبيرا في المقالات اللاذعة، بل لقد زادت حرية النشر، فصرنا نشاهد ما يشابه المحاكم العلنية لكل مسؤول مهما علت رتبته.

ويكمل بحسرة: وشدتنا المقالات بقوة، وفرحنا بهذا النوع من الانفتاح الفكري، وبهذا الكم العظيم من الحرية، حين أصبحنا نسمع ما لم يكن يخطر على بالنا أن نسمعه في يوم من الأيام من فوق منبر رسمي.

يقول: وفي البداية كان المسؤولون يتابعون، ويقلقون من كل مقال، ويحاولون الرد عبر الوسائل الإعلامية، ويجيشون الناطقين باسمهم لدرء شبهة التقصير عن مناطق مسؤولياتهم، مع أن عمليات الإصلاح كانت وقتية ونادرة، إن لم تكن منعدمة كليا.

وبعد فترة بسيطة من الزمن تحصن المسؤولون، وارتفع مستوى الشمع حول طبلات آذانهم، بشكل تدريجي، فلم نعد نرى التفاعل السريع المجدي على صدى ما يكتب في المقالات، وكأن المسؤولين لم يعودوا (يسمعون قطرة)، فكأن المقالات أصبحت سلاحا معهم، لا ضدهم، بل إنهم صاروا يؤيدونها، ويعتبرونها بالنسبة لنا نحن المواطنين، حقا مشروعا، وأنها عبارة عن فضفضة، و(فشة خلق)، وراحة نفسية مؤقتة نشعر فيها بأننا نقف على قدم المساواة مع المسؤول، وأننا نستطيع أن نحرجه، ونحاجه، ونطالبه بما نستحق علنا، وعلى رؤوس الأشهاد. ولكنا في واقع الحال لا نطول من ذلك إلا الهم.

يقول: ودارت الأيام حتى أصبحنا نحن المواطنين مدمنين على تلك المقالات، نقوم في الصباح الباكر ونحن نهرش أجسادنا، ونجري لجلب جميع الجرائد، أو للشمشمة في المواقع الإلكترونية عما جد من أصناف المقالات، وحتى أنه لم يعد مزاجنا يستقيم إلا بمقالات كتاب معينين ذات نكهة، نشربها على الريق مع قهوة الصباح، فنشيد بالكاتب، وشجاعته، ونرفعه في منزلة علية، وصدقني أننا كنا نسعد بما يقال، ونرتفع عاليا، ونشعر بنشوة ما لها من مثيل، نشوة كانت تستمر معنا لساعات طويلة، ونحن نردد بإعجاب ما قيل في تلك المقالات بمجالسنا الخاصة.

يقول: أدمنا، وبالمقابل فكل شيء حولنا كان يحور ويدور ولا يتغير، بل إن صور الفساد تتجدد، والأحداث المؤسفة المزرية تتكرر، رغم أن ما قيل فيها أكثر مما قاله شعراؤنا النبطيون في المديح.

يقول: (أفيون)، جديد، جعلنا نتجرع الويلات، دون أن نعود نجزع من سوء ذلك، التعليم مترد، وفي سن الشيخوخة، والجباية من الاختبارات المختلفة لأبنائنا مستمرة، والدروس والمدارس الخصوصية بلا رقيب، والصحة مختلة، والسرير بواسطة، والدواء صار يشترى بالغالي والنفيس، والتجارة نائمة على آذانها، والرقابة يا ساهي لك الله، والتربية مريضة، والشوارع منقورة محفورة، والخدمات متعسرة، تسوطنا بسوط من عذاب، والمرأة مظلومة لا معين لها، والمحسوبية قتلت فينا الوطنية، والشباب تائه في الشوارع لا رعاية ولا عناية ولا قيمة، وكأنهم مطرودون من رحمة الله، والإسكان حكاية مضحكة لا تحكى، والأسعار تتضخم ولا يملك أحد إيقافها، والمرتبات في ثبات وتقلص، والبطالة مهلكة، والميزانيات الترليونية تصب في حسابات الشركات والمقاولين الكبار، ومقاول الباطن يعيث في الأرض فسادا، والسيول حدث ولا حرج، والحوادث والحرائق تهدد أبناءنا، وبناتنا، والهيئة تطارد الخلق وتذلهم.

ثم يتوقف بحسرة، ويكمل: ألم أقل لك إن هذه الفضفضة، أصبحت أفيونا لنا؟، فيكفينا بعد كل أزمة، أو فساد، أو تمييع لأمر ملكي، أن نلف كومة من الصحف، وأن نتجرع الجرعة، وأن (نفك خلقنا)، على لسان الكتاب الأفاضل.

ثم يصمت هو، لأقوم بكتابة مقالي، وأنا أعرف أنكم إخوتي القراء ستقولون عن موضوعي هذا بأنه (أفيون)، هو الآخر، وأنا أوافقكم الرأي، ولكني أؤكد على أن جرعة مقالي هذا، مضمونة، لمدة ثمان وأربعين ساعة!
>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com