قبل أسبوع كان طفلاً مرحاً يجوب أرجاء المنزل بفرح غامر تبدو عليه صفات الطفولة بكل ماتحمله من جمال، وقد بدا متحمساً لانطلاقة أعوامه الدراسية كمن سبقوه من الأطفال بشوق وفضول، اختار حقيبة ظهره الصغيرة وقلمه وكراساته بعناية فائقة يكسوها الحماس والفرح.
واقترب اليوم الدراسي الأول وتسارعت عقارب الساعة التي ينظر إليها دون أن يعرف معناها فيما يطلب من والدته أن تشير إلى الرقم الذي إن مر العقرب عليه سيذهب للمدرسة وتتسارع معها دقات قلبه الصغير إيذاناً بمرحلة جديدة من حياته خارج إطار أسرته ومنزله ومحيطه الاجتماعي المحدود .
مر اليوم الأول والثاني بسلام بعد أن ذهب بصحبة والده، ثم حصل ما لم يكن بالحسبان، خفتت ضحكاته وتحولت طلباته الطفولية إلى شكاوى وأعراض مرضية مختلفة لا تنتهي، وعصبية بلا مبرر، وتعلق مبالغ بوالديه وبالمكوث في المنزل، بكاء عند استيقاظه في الصباح، واستجداءات عند باب المدرسة بعدم الدخول إلا بصحبة والده.
الطفل المستجد وخوفه من المدرسة ورفضه الذهاب إليها قصة تتكرر في جنبات منازل كثيرة بتكرار المرحلة التي تسبق دخول المدرسة للمرة الأولى وتمر معها الأسرة بأزمة نفسية قاسية ولا يجيد كثير منهم التعامل معها، وقد تعود أسباب هذا الخوف والرفض وتلك الأعراض إلى عدد من الأمور التي قد يجهلها بعض الآباء، كضعف الإعداد الجيد للمرحلة الدراسية من قبل الوالدين، فيفاجأ الطفل بجو جديد وعالم مختلف عن المنزل، ويحتاج إلى وقت طويل حتى يتكيّف مع جو المدرسة فيحدث الرفض، ومن الأسباب الأكثر أثراً أن الطفل قد يتعرض لمواقف نفسية مؤلمة في بداية الحياة الدراسية، كضرب معلم له أو لطالب آخر أمامه، أو عنف في طريقة التدريس، أو سخرية من زملائه، أو إخفاق في تواصله أو هواياته أو واجباته، وبالتالي يصبح لدى الطالب ما يسمى بالاشتراط النفسي، وهو ربط المدرسة بهذه السلوكيات السلبية وبمشاعر الخوف والقلق والتوتر..وأحياناً قد تؤثر سمات شخصية الطفل نفسه بأن يكون ذا شخصية قلقة وحساسة سواء مكتسبة أو وراثية فلا تساعده على التأقلم أو التعايش مع أجواء المدرسة الجديدة، ويعرف عن الشخصيات القلقة اتصافها بالحساسية المفرطة، وتضخيم مواقف الخوف والارتباك والإحراج، ومن الأسباب أيضاً ما قد يعود إلى وجود نوع من اضطرابات أو صعوبات التعلم لدى الطالب، فيشعر بعدم قدرته على مواكبة زملائه في مادة ما، أو عدم قدرته على التحصيل الدراسي كأقرانه، وربما تأزمت المشكلة وشكلت لديه أزمة نفسية، ومن الأسباب أيضاً بعض السلوكيات الخاطئة التي قد يقوم بها الأبوان بطبيعة شخصياتهم كالإكثار من ربط المدرسة بالمواقف السلبية، وكذلك ممارستهم لما يسمى بالتربية الاعتمادية، وهي عدم السماح للطفل بالاعتماد على نفسه، وبالتالي يشعر بالاعتماد الكلي على والديه، وعدم القدرة على الاستقلال عنهما كما تتطلبه مراحل الدراسة.
ومن الاحتمالات التي قد تكون سببا لخوف الطفل من المدرسة ورفضه الذهاب إليها حدوث نوع من الاعتداءات الجسدية أو التحرشات الجنسية على الطالب في المدرسة من بعض الطلاب أو غيرهم، والتي لا يجيد الطالب كيفية التعامل معها إلا برفض الذهاب إلى المدرسة، ولذا فمن المهم جدا توعية وتوجيه الطفل مسبقاً بأهمية سرعة الحديث مع أحد والديه أو معلميه عند حدوث مثل هذه المواقف، والتأكد من عدم حيلولتها دون رغبته في الذهاب إلى المدرسة.وتسعى الأسر التي يشكل لها هذا الأمر هاجساً مع دخول أي من أبنائهم للصف الأول إلى حلول تخرجهم من هذا المأزق المتكرر وتساعدهم في التعامل معه، وعلاج هذه المشكلة يتم من خلال محاولة الأسرة معرفة السبب أولاً، ثم نبدأ بتطبيق العلاج السلوكي مع ضرورة اشتراك وتعاون الأسرة والمدرسة في ذلك، وفي حال التأزم يأتي دور العلاج النفسي، ومن ثم تكون خطة العلاج من خلال علاج مصدر الخوف – إذا استطعنا التعرف عليه – وكذلك بإتباع أحد أساليب العلاج السلوكي وهو “الغمر”، ويتم من خلاله وضع الطالب أمام الأمر الواقع، أو بطريقة التعريض المتدرج، وذلك بتركه في المدرسة في البداية لمدة زمنية قصيرة “ثلاث حصص مثلاً”، وبعد عدة أيام يتم زيادة عدد الحصص، حتى تبدأ حالة الخوف في التضاؤل التدريجي، مع ربط كل ذلك ببرنامج من التحفيز المادي والمعنوي المقنن المتتابع عند التزامه بالبرنامج أو حرمانه من بعض الامتيازات عند عدم التزامه بتفاصيل الخطة العلاجية.كما أن من أهم وأقوى أساليب العلاج حزم الوالدين وعدم استسلامهم لخوف الطالب والبعد عن الاستجابة لرغبته في عدم الذهاب إلى المدرسة وذلك بتركه في المنزل أسبوعاً أو أكثر، فهذه من السلوكيات التي قد تفاقم المشكلة، وبالمقابل فإن التعامل بشدة وبعنف وقسوة قد يخلق مشاكل نفسية تتطلب علاجاً نفسياً آخر.وبعد هذا كله ربما يحتاج الأمر عرض الحالة على الطبيب النفسي أو المعالج السلوكي حين تأزم الأمور وعدم قدرة الوالدين والمعلمين على السيطرة أو النجاح في أساليب العلاج المذكورة آنفاً.
د. موسى أبو زعله
استشاري الطب النفسي للأطفال كلية الطب – جامعة الملك خالد>