صحيفة عسيـر :
د.محمد علي درع
سميت هذه السورة سورة الكوثر , وتسمى – كما قال البقاعي – سورة النحر , وتعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضاً شديداً , فهي مكية عند الجمهور , وعند الحسن وقتادة وعكرمة أنها مدنية . وآياتها ثلاث بالإجماع , وكلماتها عشر , وحروفها اثنان وأربعون حرفاً . وفواصل آياتها على الراء .
=* معظم مقصود السورة بيان المنة على سيد الأنبياء والمرسلين , وأمره بالصلاة والقربان , وإخباره بإهلاك أعدائه أهل الخيبة والخذلان . وهذه السورة خالصة له صلى الله عليه وسلم كسورة الضحى والشرح .
=* وهي كالمقابلة للسورة المتقدمة { الماعون } ؛ وذلك لأن السورة المتقدمة وصف الله تعالى فيها المنافق بأمور أربعة :
أولها : البخل وهو المراد من قوله تعالى : ( يدّع اليتيم ) . الثاني : ترك الصلاة , وهو المراد من قوله تعالى : ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) . الثالث : المراءاة في الصلاة , وهو المراد من قوله : ( الذين هم يراءون ) . والرابع : المنع من الزكاة . وهو المراد من قوله : ( ويمنعون الماعون ) .
فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربع , فذكر في مقابلة البخل { إنّا أعطيناك الكوثر } أي : إنّا أعطيناك الكثير , فأعط أنت الكثير ولا تبخل .
وذكر في مقابلة { الذين هم عن صلاتهم ساهون } قوله { فصلّ } أي : دم على الصلاة . وذكر في مقابلة { الذين هم يراءون } قوله : { لربك } أي : ائت بالصلاة لرضا ربك لا لمراءة الناس . وذكر في مقابلة { ويمنعون الماعون } قوله : { وانحر } فاعتبر بهذه المناسبة العجيبة .
=* ثم ختم السورة بقوله : { إنّا شآنئك هو الأبتر } أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دنياه أثر ولا خبر , وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل , وفي الآخرة الثواب الجزيل .
=* قوله : { إنّا أعطيناك الكوثر } افتتح النظم الكريم الكلام بحرف التأكيد للاختصاص والاهتمام بالخبر والإشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلّم , والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق , فأريد من هذه البشارة إزالة ما عسى أن يكون في خاطره من قال فيه : هو أبتر , فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر إبطالاً لقولهم .
=* وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم لأن الواهب هو الله , والموهوب منه هو المشار إليه بكاف الخطاب , والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر , وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة .
ولمّا أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب فيالها من نعمة ما أعظمها , وما أجلها , وياله من تشريف ما أعلاه .
=* ولما قال { أعطيناك } قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها فههنا لما قال : { إنّا أعطيناك الكوثر } طلب منه الصلاة والنحر , وفائدته إسقاط حق الرجوع .
=* وقال : { أعطيناك } ولم يقل : { سنعطيك } لأن قوله : { أعطيناك } يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلاً في الماضي ليدل على أن الكوثر لم يشمل الآجلة دون العاجلة , وهذا فيه أنواع من الفوائد , منها : أن من كان في الزمان الماضي أبداً عزيزاً مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك . وفي مسند أحمد 4/ 66 قوله صلى الله عليه وسلم : ( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ) .
ومنها : أنها إشارة إلى أن حكم الله بالإسعاد والإشقاء والإغناء والإفقار ليس أمراً يحدث الآن , بل كان حاصلاً في الأزل . ومنها : كأنه يقول إنّا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبادة . ومنها : كأنه يقول : نحن ما اخترناك وما فضلناك لأجل طاعتك , وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة بل إنما اخترنا بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب . فضلاً عن أن صيغة الفعل الماضي تفيد تحقق الوقوع .
=* وقال { أعطيناك } ولم يقل : أعطينا الرسول أو النبي , لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلاً بل هي محض الاختيار والمشيئة . وأفاد كاف الخطاب الدلالة على كرامته صلى الله عليه وسلم لا على صفته أو مهمته .
=* وقال : { أعطيناك الكوثر } ولم يقل : آتيناك الكوثر , إشارة إلى أن ذلك الإعطاء على جهة التفضل والتمليك لا على سبيل الاستحقاق والوجوب , وفيه إشعار بالدوام والتزايد . أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك فلهذا قال في القرآن { وآتيناك } فإنه لا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئاً منه .
وقال : { يؤتي الملك من يشاء وينزع الملم ممن يشاء } فالإيتاء يشمله النزع , بخلاف العطاء , وبما أنه تمليك له صلى الله عليه وسلم فله حق التصرف فيه , قال تعالى : { هذا عطاؤنا فأمنن أو أمسك بغير حساب } . وأيضاً الإعطاء يستعمل في القليل والكثير , أما الإيتاء فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم , قال الله تعالى : ( وآتاه الله الملك ) إذا ثبت هذا فقوله : { إنّا أعطيناك الكوثر } يفيد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلم , فهذا الحوض كالشيء القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة .
=* والكوثر على فوعل وفيعل من الكثرة المفرطة , وهو من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو : الكوكب والجورب والحوشب والدوسر , وهذا اللفظ لم يتكرر في القرآن .
=* ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغة مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى , ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة , وهو أحسن ما فسر به وأضبطه . والفرق بين الكوثر والكثير أن الكوثر قد يكون صفة , وقد يكون ذاتاً , أما الكثير فهو صفة فقط . وكون الكوثر صفة يدل على الخير الكثير .
=* والواو أقوى من الياء فأعطى الله تعالى الوصف الأقوى وهو الكوثر وليس الكثير . وحذف الموصوف للعموم والشمول فلم يقل : ماء كوثراً ولا مالاً كوثراً , وإنما قال الكوثر فقط لإطلاق الخير كله . وتعريف الكوثر بالألف واللام للاستغراق فيدخل فيه النهر , ولو قال { كوثر } لما دخل النهر فيه
=* وهو على المشهور { نهر في الجنة } ففي الحديث الصحيح المروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوّف , فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت : ما هذا ؟ قيل : الكوثر الذي أعطاك الله } , وفي رواية أنس : { أشد بياضاً من اللبن , وأحلى من العسل , فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت , من أكل من ذلك الطير , وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان } . ولعله إنما سمّي ذلك النهر كوثراً إما لأنه أكبر أنهار الجنة ماء وخيراً , أو لأنه أنفجر منه أنهار الجنة .
=* قوله : { فصلّ لربك وانحر } اعتراض , والفاء للسببية لترتيب ما بعدها على ما قبلها , حيث أفادت جعل النعم الكثيرة سبباً إلى شكر المنعم سبحانه . و { صلّ } أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل , والنحر نحر الهدي والنسك والضحايا .
فإن قيل : اللائق عند النعمة ( الشكر ) فلم قال : { فصلّ } , ولم يقل { فاشكر } ؟ والجواب : أن الشكر عبارة عن التعظيم وله ثلاثة أركان : أحدها : يتعلق بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره . والثاني : باللسان وهو أن يمدحه . والثالث : بالعمل وهو أن يخدمه ويتواضع له , والصلاة مشتملة على هذه المعاني , وعلى ما هو أزيد منها , فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة , فكان الأمر بالصلاة ههنا أليق وأحسن . وقدم الصلاة على النحر لأنها أهم منه , فهي ركن من أركان الإسلام , وأول ما يسأل العبد عنه يوم الحساب .
=* وعدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله : { فصلّ لربك } دون { فصلّ لنا } لما في لفظ الرب من الإيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلاً عن فرط إنعامه . وتنذير بالكفار حيث كانت صلاتهم مكاء وتصدية ونحرهم للأصنام . ولئلا تكون الصلاة للمعطي , فإن المعطي له الشكر فقط وليس له الصلاة .
=* وإضافة { ربك } إلى ضمير المخاطب أبلغ من قول { فصل لله } وذلك لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم , وتقريبه , وفيه تعريض بأنه هو وحده يربيه ويرأف به ولا يتركه .
=* وأفادت اللام من قوله { لربك } أنه يخص الله في صلاته فلا يصلي لغيره , وفي ذلك تعريض بالمشركين بأنهم يصلّون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها .
=* وعطفُ { وانحر } على { فصلّ } يقتضي تقدير متعلقه مماثلاً لمتعلق { فصل لربك } لدلالة ما قبله عليه , فالتقدير : ( وانحر له ) , وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قرابينهم للأصنام .
=* وقال : { انحر } ولم يقل : ضحّ ؛ لأن الصلاة أعظم العبادات البدنية فقرن بها العبادات المالية وهي أعظم أنواع الضحايا , وأيضاً فيه إشارة إلى أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الأبل التي هي من أعز الأشياء عند العرب , ولذا لم يقل : { اذبح } لاحتمال أن يكون المذبوح شاة أو بقرة أو طيراً .
كذلك لمراعاة تسمية يوم الأضحى بيوم النحر , وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج , مع مراعاة فاصلة الراء في السورة .
=* ولم يعطف الزكاة على الصلاة جريا على عادة النظم القرآني ههنا , بل المعطوف ههنا النحر ؛ لأن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان فقيل له : اجعلهما لله وحده .
=* قوله : { إن شآنئك هو الأبتر } قيل : هو العاص بن وائل السهمي , وقيل : عقبة بن أبي معيط , وقيل : أبو جهل . ولا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك , ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول , فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه .
=* واعلم أن الكفار لما شتموه أجاب الله عنه من غير واسطة فلم يقل { قل يا محمد إنّ شائنك هو الأبتر } في حين أنهم لما شتموا الرب سبحانه وتعالى بقولهم : صف لنا ربك يا محمد أمن حديد هو أم من فضة أم من نحاس ؟ قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم { قل هو الله أحد , الله الصمد .. } وهكذا سنة الأحباب فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه توّلى بنفسه جوابه , فههنا تولّى الحق سبحانه وتعالى جوابهم فقال : { إن شائنك هو الأبتر } , وعندما قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( مجنون ) ردّ الله عن حبيبه بقوله مقسماً بثلاثة { ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون } ولما قالوا عنه ليس مرسلا , قال تعالى : { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } , وحين قالوا : { أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون } ردّ الله عليهم وقال : { بل جاء بالحق وصدّق المرسلين } , وحين زعموا أنه شاعر قال الله رداً عليهم : { وما علمناه الشعر } …
=* والآية يجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً , ويجوز أن تكون تعليلية للأمر بالصلاة والنحر حيث يقبل على المطلوب منه , ويترك شانئه . وفي إضافة { شانئ } إلى ضميره وعد بأن كل من يبغضه هو المبتور أبداً .
=* ولما بشره الله بالنعم العظيمة وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهوراً , لا جرم وعده بقهر العدو فقال : { إنّ شائنك هو الأبتر } فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف . فهناك بتر في الدنيا وبتر في الآخرة , ووصل في الدنيا ووصل في الآخرة , فهناك مبتور وموصول إذن هما فريقان , والفريقان لا يمكن أبداً أن يتحدد منهجهما في الحياة , لا في تصور العقيدة ولا في منهج التفكير ولا في المبادئ , ولذلك ساق الله – عز وجل – سورة الكافرون بعد هذه السورة لتعبر عن المعنى الذي نعبر عنه حديثاً في العرف الدبلوماسي بقطع العلاقات .
=* وفيها قصر لأن ضمير الفصل { هو } يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف وهو { شانئ النبي } قصر المسند على المسند إليه قصراً قلبياً أي : هو الأبتر لا أنت . فأثبتها للعدو ونفاها عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
=* وفي التعبير بالأبتر دون المبتور ما لا يخفى من المبالغة , فالله سبحانه يبتر شانئ الرسول من كل خير , فيبتر أهله وماله وحياته وقلبه وأنصاره وأعماله , فلا يذوق لها طعماً ولا يجد لها حلاوة .
=* والأبتر صفة مشبهة على وزن أفعل تفيد الثبوت والاستمرار , والمبتور صيغة فعول تدل على الحدوث فترة ولا تدل على الثبوت بل تتحول مثل : مهموم ومحزون ومسرور . ولم تسم الآية ذلك المبغض الكافر باسمه وإنما ذكره بوصفه ليتناول كل شانئ مبغض .
=* ولا يخفى على الدارس ما احتفلت به السورة من الأفعال المعتلة والصحيحة والصيغ الصرفية وكذا تعدد الضمائر وتنوعها وتعاقب الجمل الاسمية والفعلية والجمل الصغرى والكبرى الخبرية والإنشائية
فسبحان من أعجز فصحاء العرب والعجم عن الإتيان بمثل هذه السورة مدى الدهور على وجازة ألفاظها وأناقة نظمها وحسن ترتيبها وبراعة تركيبها>