تحدث العربية.. مبادرة شبابية نوعية تدخل تحت مسمى ريادة الأعمال الاجتماعية وهي من صنع شركة تراكيب، وهي شركة متخصصة في صناعة المحتوى المكتوب.. تهدف لدعم وتعزيز لغة الضاد في الأماكن العامة والمحلات التجارية، وقد استخدمت ختماً دائري الشكل وأيقونة تعريفية وعلامة إرشادية للجمهور باستخدام العربية، هدفها التحدث بالعربية وجعل الختم أيقونة تجارية حول العالم.
إن التحدث بالعربية يدخل تحت التحيز اللغوي المحمود، ومن مظاهره في الثقافة العربية، قولهم: إن اللغة العربية أول اللغات نشأة. وأنها أفضل اللغات، وأكملها وهي لغة أهل الجنة.. واللغة التي يمجِّدُها أكثر من مليار ونصف مليار مسلم لأنها اللغة التي أنزل الله تعالى بها القرآن الكريم. ثم إنها – بعد ذلك كله – اللغة القومية لأكثر من أربعمائة مليون عربي. وشابه الغرﺒيون غيرهم ﻤن الأﻣﻤم في ﻤظاهر التحيز اللغوي فقد ظهر ﻤؤخراً كتاب عن هذا الموضوع في أوروبا بعنوان: “لغات العنصرية والدين والفلسفة في القرن الـ 19” وﻤؤلفه هو ﻤوريس أولندر، ونشر بالفرنسية سنة 1989م وﺘرجم إلى الإنجليزية.
وكان الرأي السائد في العصور الوسطى أن العبرية هي اللغة التي تكلم بها آدام في الجنة، وكان هناك ﻤن يقول إﻧها السيريانية، ومنهم من ﻴقول إﻧها الكلدانية.
إن علينا أن لا نستكثر استخدام العربية في حركة المعاش اليومي، ولا أظن أن المراد “بتحدث العربية”، أن تكون فصيحة، غاية الفصاحة، وإنما بسيطة ووسيطة، واللغة العربية تتعايش مع العاميات واللهجات المحلية، في غالبية البلدان العربية، كالكردية في العراق، والأمازيغية في المغرب العربي
إن وجود الفصحى والعامية ظاهرة لغوية اجتماعية، يشمل كل العصور على اختلاف البيئات، وكان ذلك ولا يزال وسيبقى، وهذا لا يهدد اللغة العربية، لأن هذه الثنائية – بين الفصحى والعامية – مالم تأخذ طابعاً سياسياً عرقياً- فهي تتكامل وظيفياً مع الفصحى، ولاتدخل معها في تنافس مصيري. وتستطيع اللغة -عموماً- أن تكون وسيطة لأعمال اجتماعية يتشكل من خلالها الواقع الاجتماعي.. الذي ربما يصلح من بوابة اللغة، فقد سئل حكيم الصين (كونفوشيوس) ذات مرة عما يصنع بادئ ذي بدء إذا ما كُلف بأمر البلاد؟ فأجاب: “إصلاح اللغة بالتأكيد, ثم سئل لماذا؟ فانبرى قائلاً: إذا لم تكن اللغة سليمة فما يقال ليس هو المقصود..” وهو صادق..
إن مبادرة “تحدث العربية” تُظهر ضرورة المخاطبة باللغة العربية الوسيطة لإظهار مدى الاحترام الذي يكنه المتحدث للثقافة العربية. وهذا الاحترام يذكرني بما حفظته لنا المكتبة السياسية المعاصرة حين ألح الرئيس الفرنسي شيراك على سفير فرنسا لدى الجزائر عند تعيينه، بألا يتحدث باللغة العربية مع المسؤولين الجزائريين. قال باجولي السفير الفرنسي في الجزائر: ولم أحترم تعليمات جاك شيراك، بألا أتحدث اللغة العربية مع المسؤولين الجزائريين، بل قد تحدثت اللغة العربية في إحدى الاحتفاليات الفرنسية: “وقمت بإلقاء العديد من الخطب باللغة العربية، بما في ذلك يوم العيد الوطني الفرنسي”.. لأن مخاطبتهم باللغة العربية الفصحى كانت طريقة لإظهار مدى الاحترام الذي أكنه لثقافتهم، التي احتقرتها فرنسا خلال 132 سنة من الاستعمار”. ومعلوم”بالتجربة الشخصية” أن فرنسا من أشد الدول تعصباً للغتها! ألم يقاطع جاك شيراك القمة الأوروبية في عام 2006، عندما قرر أحد ممثلي قطاع الأعمال الفرنسي التحدث إلى المجتمعين باللغة الإنجليزية. عند ذلك غادر الرئيس الفرنسي القاعة غاضباً، وصحبه في الاحتجاج وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بليزي، ووزير المالية ثيري بريتون! ألم يحتقن الشارع الفرنسي، والبريطاني من أجل اسم طائرة مشتركة الصنع بين الدولتين، ففرنسا تريد أن تطلق عليها اسماً فرنسياً، وبريطانياً تريد أن تطلق عليه اسماً إنجليزياً..، وبعد حين توصلتا إلى اسم مركب من كلمتين: أوله انجليزي، وآخره فرنسي، وهو اسم كونكورد.
إن اللغة العربية تستطيع مسايرة، العصر وأن تستوعب سوق العمل، لتلبي حاجات المجتمع من حولها، وحتى في تلك المواقع التي يظن ألا مجال للعربية فيها، ومن ذلك رسالة ماجستير في حاجات التّواصل اللغويّ للمضيفين الجوّيّين النّاطقين بغير العربيّة في الخطوط الجوّيّة السّعوديّة وخطوط ناس؛ للباحثة: آمنة بنت أحمد الشّنقيطيّ، الباحثة في جامعة أم القرى.
إن دعم مبادرة “تحدث العربية ” يعزز فكرة إمارة منطقة مكة المكرمة التي أقامت حملة “كيف تكون قدوة باللغة العربية” هذه الحملة التي التقطتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والتي توعدت مرافق الإيواء السياحي التي لا تستخدم اللغة العربية في جميع تعاملاتها بعقوبة إدارية تبدأ من 10 آلاف ريال وتصل إلى 100 ألف، وإلغاء الترخيص، أو بهما معا.
وهذا يذكرني بما تقدمت به النائبة سولاف درويش، عضو مجلس النواب المصري بأول مشروع قانون للنهوض باللغة العربية وحمايتها، وفقاً لنص الدستور فى المادة (2) منه والتى تنص على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع”، ويتضمن المشروع معاقبة غير الملتزمين باستخدام اللغة العربية وفقاً لأحكام القانون بدفع غرامة تصل إلى 10 آلاف جنيه.
كما يذكرني بما قام به المحامي التونسي، الحنيفي الفريضي الذي رفع قضية في المحكمة الإدارية سنة 2017، لإلزام رئيس الجمهورية وجميع الوزراء باستعمال اللغة العربية، عندما يمثلون تونس كدولة ذات سيادة في الخارج.
وهذا المشروع، مشروع حماية اللغة الرسمية للدول وفرضها في المجتمع موجود في أغلب دساتيرها… وهي تأخذ مثل هذه الصيغة “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها”..
تحدثوا العربية “فهي شعار الإسلام وأهله، والّلغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون”، كما قال ابن تيمية: “والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين وسبب إصلاحٍ في المعاش والمعاد” كما قال الثعالبي.
د. علي يحيى السرحاني
جامعة الملك سعود الصحية>