الرسالة الثانية من الرسائل الأربع لداعش أخلاقنا الحربية للبروفيسور الدكتور عبدالعزيز الغامدي

الغامدي

أربع رسائل لداعش

أ.د /عبدالعزيز بن عمر القنصل الغامدي

أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة

جامعة الملك خالد

-أبها-

صحيفة عسير : فايع عسيري

   وهذا جانبٌ من أهمِّ جوانب النَّزْعَةِ الإنسانية في حضارتنا الإسلامية، وهو جانب تفردت به حضارتنا الإسلامية عن غيرها، فَحُسْنُ الخلق، ولينُ الجانب، والرحمةُ بالضعيف ونحو ذلك تفعله كل أُمَّةٍ من الأمم في أوقات السلم مهما أوغلت في الهمجية، بيدَ أنَّ حُسْنَ المعاملة في الحرب ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين،

_______________________________

([1]) سورة العنكبوت. آية: 67 .

([1]) سورة الحجّ. آية: 25 .

([1]) أخرجه البخاري( 1: 398 ح: 1133 ) ومسلم( 2: 1012 ح: 1394 ) .

([1]) البخاري( 2: 539 ح: 1411 ) ومسلم( 2: 993 ح: 1365 ) .

لا تستطيع أيُّ أمة أن تفعله، ولا يستطيعُ أي قائدٍ أن يَتَّصِفَ به، فرؤية الدَّم تثيرُ الدم، والعداءُ يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوةُ النصر تَسْكِرُ الفاتحين فتوقعهم في أبشع أنواع التشفِّي والانتقام، ذلك هو تاريخُ الدول قديمها وحديثها، غير أن التاريخ يقف صامتاً، وفي ذات الوقت مصفقاً لقادة حضارتنا العسكريين والمدنيين، فاتحين وحاكمين، فقد انفردوا من بين جميع القواد على مرّ التاريخ قديمه وحديثه بالإنسانية والرّحمةِ والعدالةِ والتّسامح والرأفة، والمعركةُ في أشدِّ ما تكون احتداماً .

جاءت حضارتنا والعالمُ كله يسيرُ – كما هو الآن – على شريعة الغابِ إن كان لها شريعة، القويُّ يقتلُ الضعيف، والمسلح يسترِقُّ الأعزل، والحربُ شِرْعَةٌ معترفٌ بها بين جميع الشرائع والديانات والأمم والشعوب، من غير قيد ولا حد، ومن غير تفريق بين حربٍ جائرة وحرب ظالمة، فكل من استطاع أن يغلب ويسترق ويقهر فَعَلَ من غير تحرّج ولا تأثم .

غير أنّ حضارتنا الإسلامية لم ترض بمثل هذا المستوى من الحيوانية المتوحشة الشرسة، فقد أعلنت أنّ الأصل في العلاقات بين الناس يقوم على التعارف والتعاون” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ([1])” وبذلك كان السِّلْمُ هو العلاقة الطبيعية بين الشعوب” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً([2]) .

فإذا أبت أمَّةٌ إلاَّ الحربَ والعدوانَ على الأمة الأخرى، كان على هذه الأمة أن تستعدَّ لمجابهة العدوان، فإن تركَ الاستعداد يُغري بالعدوان ويُسرِّع به” وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ([3])”.

فإذا عدلت تلك الأمةُ عن عدوانها، كان على الأخرى أن تركن إلى السِّلْم وتحرص عليه” وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ([4])” وإن أبت إلاَّ الحربَ

________________________________________

([1])  سورة الحجرات: الآية: 13 .

([2])  سورة البقرة: الآية: 208 .

([3])  سورة الأنفال: الآية: 60 .

([4])  سورة الأنفال: الآية: 61 .

فإنّ القوة لا تُدْفَعُ إلاَّ بالقوة، والعدوانُ يدفعُ بمثله” وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ([1])” وهنا يُعلنُ دينُنا الحنيفُ تحريمَ الغزو لمجرد الحرب ونهب الثروات والسيطرة عليها، أو إذلال الشعوب وإهدار كرامَتِهَا، وإنَّمَا الحرب المشروعة ما كانت إلاَّ لغايتين: –

1 –  للدفاع عن عقيدة الأمة وأخلاقها .

2 –  للدفاع عن حرية الشعوب واستقلالها وسلامتها” وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ([2])” وليست حرية العقيدة هي المطلوبة للأمة التي تعلنُ الحربَ فحسب، بل عليها أن تضمن حرية العقائد الكتابية كلّها، وتحمي أماكن العبادة لكل الديانات الأخرى” الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ([3])” .

ومن أروع ما نادت به حضارتُنا الإسلاميَّةُ أن الدفاعَ عن الضعفاء المستَذَلِّين في الشعوب الأخرى واجبٌ علينا، كما يجبُ الدفاعُ عن حريتنا وكرامتنا” وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً([4])” هذه الحرب التي تُعلن للدفاع عن العقيدة وعن الحرية والسلم هي الحربُ المشروعة، وهي الجهاد في سبيل الله، ومن مات فيها فهو بنِيَّتِهِ شهيدٌ من أهل الجنة بإذن الله تعالى، وما عداها فهي حربٌ ليست في سبيل الله، بل في سبيل الطاغوت والفساد” الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً([5])” .

____________________________-

([1])  سورة البقرة: الآية: 190 .

([2])  سورة البقرة: الآية: 163 .

([3])  سورة الحج: الآية: 40 .

([4])  سورة النساء: الآية: 75 .

([5])  سورة النساء: الآية: 76 .

وإذا كانت هذه هي غايةُ الحرب في دينننا الإسلامي، فلا يحلُّ لها أن تنقلبَ إلى أداةٍ تصنعُ الباطلَ والشرّ، وتنشُر الدماءَ والخرابَ، ومن أجل ذلك كان ديننا الإسلاميّ ينهى عن القتال إلاَّ لمن يقاتلها ويعتدي عليه” الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ([1])” فإن تجاوزنا ذلك وقاتلْنا من لم يقاتلْنا، أو آذينا من لم يؤذنا، كنا معتدين ننحرف بالحرب الإنسانية عن غاياتها وأهدافها” وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ([2])” ،  وقال الله سبحانه وتعالى” وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ([3])”  .

فإذا قامت الحرب كان علينا ألا ننسى مبادئنا فنقسوا ونفسد ونظلم وننشرُ الخراب والدمار، كَلاَّ، فالحربُ الإنسانية الخالصةُ لله عزّ وجل يجبُ أن تظلَّ إنسانيةً في وسائلها وعند اشتداد وطِيْسِهَا، ومن هنا جاءت الوصايا للجيوش الإسلامية الزاحفة كوصيّة الصّديق رضي الله عنه” لا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأةً، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بَعِيْراً إلاَّ لمأكل، وسوف تمرون بأقوامٍ قد فرَّغُوا أنفسهم في الصوامع فدعوهُم وما فرغوا أنفسهم له([4])، هذه هي حروبنا، إنسانيةٌ، فيها الرحمة والعدل، فيها التسامُح والإنصاف، وهذه الحربُ تنتهي بأحد أمرين اثنين لا ثالث لهما: –

1 –  الصلحُ .

2 –  أو النصر .

والصلحُ: العهود فيه محترمة، والوفاءُ بما تضمنته بنوده واجب، والإخلال بشيءٍ مما وردت به خيانة” وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ

______________________________

([1])  سورة البقرة: الآية: 194 .

([2])  سورة البقرة: الآية:  190 .

([3])  سورة الشورى: الآيتان: 41، 42 .

([4])  انظر: مصنّف ابن أبي شيبة ( 7 / 731 ) وجامع الأحاديث للسيوطي ( 25 / 98 ) .

عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ([1])” .

إمَّا النصر: فهو انتصار الجماعة التي غضبت للحق، واستُشهدت في سبيله، فلن تفعل حين انتصارها إلاَّ ما يوطد أركان الحق في الأرض، ويمنعُ البغي والفساد بين الناس، مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة” الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ([2])”    .

هذه التعاليم الربانية المثالية لم تكن حبيسة الذهن، ولا حبراً على الأوراقِ، ولا شِعاراتٍ كاذبةٍ تجوبُ الآفاق، بل كانت واقعاً في الحياة ملموساً، فالرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ بعد غزوة أُحُد وما حصل فيها، من كسر رباعيته صلى الله عليه وسلّم كان يمسحُ الدمَ ويقول” اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون([3])” وحينما أسلمت هند بنت عتبة وقد مثَّلتْ بحمزة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في أُحُد لم يعنِّفها صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يزد على أن استغفر لها، وكذلك وحشيٌّ القاتل لحمزة ما قال له صلى الله عليه وسلم ما يُغضبه، فضلاً عن أن ينتقم منه، وحينما رأى صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ في بعض المعارك امرأةً من الأعداء مقتولة، غضب وأنكر على قاتليها وقال” ألم أنهكم عن قتل النساء، ما كانت هذه لتقاتل([4])” ولما فتح صلى الله عليه وسلّم مكة بجيوش التوحيد لم يزد عليه السلام على أن قال لمن آذاه وأصحابه، وحاربوه، وأخرجوه منها” اذهبوا فأنتم الطلقاء يغفر الله لكم([5])” وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ عن أهل الكتاب” من ظلم معاهَداً أو كَلَّفَه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة([6])” فهل يعي أهل الضلال هذا المقال؟

ونطوي السنين طياً، ونتجاوز خلافة الراشدين سوياً، فالحديث فيها لا يفيها، ويكفي أنها على منهاج النبوّة، ومن كان هذا حاله، فما ظنّك بأفعاله .

____________________________________

([1])  سورة النحل: الآية 91 .

([2])  سورة الحج: الآية 41 .

([3])  أخرجه ابن حبان في صحيحه ( 4 / 439 ) وصحيح الأدب المفرد لمحمد ناصر الألباني ( 1 / 279 )  .

([4])  أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب: قتل النساء في الحرب ( 3 / 1098 ) .

([5])  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 9 / 118 ) وابن أبي شيبة في مصنّفه ( 7 / 250 ) .

([6])  رواه أبو داود ( 9 / 191 ) والبيهقي في الكبرى ( 9 / 205 ) وابن الأثير في جامع الأصول من أحاديث الرّسول ( 2 / 1139 ) وجامع الأحاديث للسيوطي ( 6 / 48 ) .

ولما تولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الخلافة وفد إليه قومٌ من أهل سمرقند ورفعوا إليه أن قائده قُتيبةَ بن مسلم الباهلي قد دخل بجيوش المسلمين مدينتهم غدراً وأسكنها المسلمين، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يُحَكِّمَ في قضيتهم قاضياً يقضي بينهم، والقاضي بالطبع مسلماً، وما حكم به القاضي فهو المعتمد، فَحَكَّمَ قُتيبةُ: جُميعَ بن حاجز الباجي، لينظر في شكواهم، فلما ترافع الطرفان، حكم القاضي المسلم بخروج المسلمين من البلد، ويبقوا في الخارج حتى يغلق أهلُ سمرقند الأسوار، وبعدها ينذرهم قائد الجند، فإن صالحوا فهو لهم، وإن حاربوا فذاك إليهم، وبالفعل خرج الجيشُ الإسلامي من المدينة بأسرها حتى أغلق أهلُها الأسوار، وتركوا ما أخذوه حتى قَعْب الماء أعادوه([1])، فلما رأى أهلُ سمرقند ذلك لم يصدّقوه أوّل الأمر، فلما تيقّنوا من صحّته فتحوا الأسوار مرةً أخرى ودخلوا في الإسلام إلاَّ القليل منهم لِمَا رأوا من العدالة التي لم يشهد لها التاريخ مِثْلاً([2]) .

ولما فتح المسلمون بلاد الشام دمشق وحمص وبقية بلاد سوريا أخذوا من أهلها أموالاً صُلْحاً على أن يحموهم من الغزو إذا اعتدى أحدٌ عليهم، فلما جَمَعَ هرقل جيوشه على المسلمين خرج خالد بن الوليد من حمص، وأبو عبيدة بن الجراح من دمشق وأعادوا للنصارى أموال الجزية التي أخذوها منهم لأنهم لا يستطيعون حمايتهم في تلك الأيام، فقال أهل الشام لقادة الجيوش الإسلامية: ردَّكم الله ونصركم على هرقل النصارى، والله لحكمكم فينا أحبُّ إلينا من حكمه، ولو كان هو الذي أخذ منا شيئاً لما رده إلينا، وقد استمر هذا النّهجُ في معاملة غير المسلمين عبر التّاريخِ الإسلاميِّ([3]) ؟ .

وفي حرب التتار وقع أسرى كثيرٌ في يد التتار، فتدخل شيخُ الإسلام ابن تيمية لإطلاق سراحهم، فأجابه أميرُ التتار في أسرى المسلمين فقط، ورفض إطلاق سراح الأسرى من اليهود والنصارى، فقال شيخ الإسلام: كلا: لابُدَّ من إطلاق جميع الأسرى بما فيهم اليهودَ

_____________________________-

([1]) القَعْبُ: هو قدحٌ يروي الرجلين على الأكثر. انظر: لسان العرب لابن منظور( : 683 ) .

([2])  انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري ( 4 / 40 ) والبداية والنهاية لابن كثير ( 9 / 85 وما بعدها ) والكامل في التّاريخ لابن الأثير ( 2 / 346 ) .

([3])  انظر: فتوح البلدان للبلاذري ص 139، والدّعوة إلى الإسلامِ لتوماس آرنولد ص 73، وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 139 .

والنصارى لأنهم أهل ذمِّتِنَا، ولا ندعُ أسيراً لا من أهل الملّة ولا من أهل الذمة([1]) .

وأجمع العلماءُ أنّ من كان في ذمّتنا وجاءَ أهل الحربِ إلى بلادِنا يقصدونهم فإنّه يحب علينا أن نخرجَ للدّفاعِ عنهم وقتال المعتدين بالكراعِ والسّلاحِ ونموتُ دون ذلك صوناً لمن هو في ذمَّةِ الله ورسوله([2])، وإذا أُسر أحد من أهل الذّمَّةِ كان على المسلمين أن يدفعوا عنه ويفكّوا أسره، كما فعل شيخ الإسلامِ رحمه الله تعالى مع التّتار وقد سبق بيانه، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من كانت له ذمِّتُنا فدمه كدمِنا([3]) .

ولما أقبلت الحروب الصليبية على المسلمين كنا نفي ويغدرون، ونصفحُ وينتقمون، ونصونُ الدماءَ وهم فيها يخوضون، وقد قَدَّرَ بعض المؤرخين الإفرنجة عدد القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال في بلاد الشام بما يزيد على مائة ألف، ثم تابعوا سيرهم لبيت المقدس وشددوا الحصار على أهله، فطلب قائد الحملة: طنكرد الأمان على نفسه ومن معه، فأعطاه الفرنجة رايةً وأمروه أن يدخل بها لساحة الأقصى ويَتَجَمَّعُ حول هذه الراية كل من يريد الأمان، فلما تجمعوا هناك غدروا بهم، وذبحوا بالسكاكين أكثر من سبعين ألفاً في ساحة المسجد الأقصى، وبعد تسعين عاماً من هذه المجزرة فتح صلاح الدين الأّيوبيُّ رحمه الله تعالى بيت المقدس وفيه أكثر من مائة ألف صليبيّ، لم يؤذ أحداً منهم، بل أعطاهم الأمان، وسلمهم أموالهم، وعالج مريضَهم وحما حريمهم، ولما أراد البطريرك الإفرنجي المغادرة غادر ومعه من أموال البِيَع والأقصى والقيامة ما لا يعلمه إلاَّ الله، وحينما اقترح بعضُ حاشية صلاح الدين أخذ ذلك المال، قال صلاح الدين: لا أغدر به، ثم أطلق صلاحُ الدين الأسرى، وأوصلهم إلى صور وعكا، وإلى أماكن أخرى يريدونها وأعطاهم من الأموال ما يتقوون به على السفر لمن أبى المقام، بينما أمير أنطاكية النصراني يأبى أن يستقبل النصارى الخارجين من القدس لما توجّهوا إليه حتى هاموا على وجوههم في الصحراء، بعد أن سرق أمتعتهم وأَذَلَّهُم وهم على دينه([4]) .

_____________________________________

([1])  انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 28 / 617 ـ 618 ) .

([2])  انظر: الموسوعة الفقهية الكبرى لوزارة الأوقاف والشّئون الإسلاميّة بالكويت ( 2 / 5352 ) .

([3])  انظر: سنن البيهقي الكبرى ( 8 / 34 ) والأم للشافعي ( 7 / 523 ) .

([4])  انظر: الكامل في التّاريخ لابن الأثير ( 5 / 178 ) .

ولما فتح السلطان محمد الثاني القسطنطينية دخل كنيسة: أيا صوفيا وقد لجأ إليها رجال الكنيسة، وظنوا أنه قاتِلُهُم لا محالة، فأحسن استقبالهم، وأكد حمايتهم، وطالب النصارى المختبئين المرعوبين أن يعودوا لديارهم ولأهلهم آمنين، ثم نظم شئون المسيحيين، وترك لهم حق اتِّباع كنائسهم الخاصة بهم وقوانينهم المليَّة، وتقاليدهم الشخصية، وترك للقساوسة حق انتخاب بطريرك لهم، فانتخبوا: جناديوس فاستقبله السلطان محمد الثاني، وأهداه فرساً، وجعل له حرساً خاصاً من الانكشارية – وهم حرس السلطان الخاص – وصحبه باشاوات الدولة إلى المكان المعدِّ له، وقد فعل السلطان محمد الفاتح ذلك وليس بينه وبين نصارى القسطنطينية أي شرط يلتزم به، ولا عهد يفي به، لكنه الدين الإسلامي الّذي لا يرضى الله بغيره، ولا بغير تعالميه، واستمر الخلفاء العثمانيون يحسنون معاملة الرعايا المسيحيين في البلدان التي يفتحونها كاليونان والبلغار وغيرها كما يمليه عليهم دينهم الإسلاميِّ الخالد الرّاحم المتسامح([1]) .

__________________________________

([1])  انظر: من روائع حضارتنا (ص 95 – 110) .

>

شاهد أيضاً

( إن من الشعر حكمة ) مسابقة شعرية رمضانية بجمعية أدباء 

صحيفة عسير _ يحيى مشافي بمناسبة ‎اليوم_العالمي_للشعر وضمن فعاليات مجلس الأنس الأدبي أطلقت جمعية أدباء …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com