” كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” . لله ما أعطى وله سبحانه ما أخذ . أفكار خضراء عديمة اللون ترقد بعنفوان ولا أعلم لها تفسيرا لكنها زادت من إيماني برب كل شيئ .
في اللحظات الأخيرة من وفاة أمي يرحمها الله كنت أنظر للموت وهو يمر الهوينا فلم أعلم يقينا أنه بهذا القدر من البغتة والأخذ بالغفلة.الكل ينظر في صمت مطبق والطبيب يحاول يائسا إعادة نبضات القلب ويكرر عملية الانعاش .أحاول اختلاس النظرة الأخيرة من خلف الستار فأرى إحدى الممرضات تذرف الدموع فازدادت شكوكي لكنها بادرت باغلاق الستارة .كانت حينها أختي الكبيرة تنظر نحوي نظرة باهتة يملؤهما التعب والسهر طوال الليلتين الماضيتين .أنهى الطبيب محاولاته ثم التقط سماعته وأدواته وقال : قضاء الله وقدره ثم غادر المكان وغادرن كل الممرضات خلفه .
نظرت لأمي فإذا هي جثة هامدة بعد أن صعدت روحها لخالقها سبحانه . حاولت اللحاق بالطبيب لكي أسأله عن ماهية الموت وكيف كانت المعاناة ! . كان الموقف حلما فهي الأم التي كانت تمثالا لا ينكسر . أمي التي كانت تجوب الأرض وتصعد الجبل حين كانت القرية تدب وتعج . ماتت دون أن يعود لها خاتمها الذي خلعته أختي من اصبعها قبل دخول غرفة التنويم فكأن الكائنات ماتت من بعدها.
لا أكاد أنسى بعض اللحظات معك يا أمي بل إنني أراها في كل حلم أتذكره . أتذكر كذلك كل الجمل والعبارات الرائعة عن كل شيئ كنتي تتحدثين عنه في صباك وفي شبابك وفي نهاياتك .
حدثتني أمي ذات مرة وأنا أقود السيارة لزيارة إحدى صديقاتها في النماص أنها صعدت الجبل مرات عديدة يوم أن كانت شابة صغيرة لحبها في التواصل وزيارة الأقارب والأصدقاء وصلة الرحم .
وذات مرة يوم كنت في العاشرة من عمري انقطع الماء من بيتنا في القرية ( قرية الشاطئ) في منتصف الليل فطلبت مني أمي حينها أن أذهب معها إلى الوادي والذي يقع خلف الجبل المقابل للقرية على بعد خمسة كيلو مترات صعودا ونزولا وذلك للتأكد من أنبوب الماء المنقطع. عندما وصلنا للمكان المخصص في ذلك الظلام الدامس أصلحنا الأنبوب وفي أثناء عودتنا سقط المصباح ( الكشاف) من يدي فانطفأ ولم أعد أرى سوى الظلام . قامت أمي تهدئ من روعي وتمسك بيدي وتجرني نحو البيت بلا استسلام أو خوف . قطعنا كل المسافة بين صخور الجبل والسهل والوادي .
وهكذا من بعد موتك يا أمي يموت وطني الصغير ؛ ومن بعد كل الذي رأيته من تدني خدمات المستشفى وقلة كوادره الوطنية المخلصة يموت وطني الكبير . فعشرات السنين ربما حال مستشفياتنا الحكومية ظل كما هو . أين الشباب المخلص وأين الشابات النبيلات ليقدن هذا العمل وينتشلنه قبل أن يغرق أو يزداد في الجهل والكسل .
بقلم- أحمد عبدالخالق الجميري>