د. محمد بن علي بن درع
أولاً – ما ذا يمثل المتنبي في شعره وفي شخصه ؟
من المعلوم أن الأمة التي تمر بمراحل الانحلال والفساد يدركها الضعف في أبنائها ورجالها , ولكن قلّة قليلة يظلون شاهداً على روحها في قمة توثّبها , فيكونون أمة في حفنة من الرجال أو أمة في رجل , وقد مثل ذلك المتنبي تمثيلاً واضحاً , فكان لشخصيته وشعره بعدان أساسيان
بُعد فردي : فالمتنبي نموذج فذ لظهور الذات المعتدة بنفسها المستوعبة لأمجاد قومها ومثلهم ووجودهم . وبُعد قومي : إذ جسّد في مديحه لسيف الدولة الحمداني طموحاته العربية .
ثانياً – في ضوء القصيدة :
ملومكما يجلّ عن الملام = ووقعُ فعاله فوق الكلام
ذراني والفلاة بلا دليل = ووجهي والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذا وهذا = وأتعب بالإناخة والمقام
من أول بيت في القصيدة يكشف عن اعتزازه بنفسه وذاتيته التي يجعلها أجلّ من أن تلام , وخير للائميه أن ينتهوا عن لومه , فهو لا يخدع به , ولا يقبل فيه طاعة ولا خضوعاً , فهو يستدعي اللائمين استدعاء فنياً لا حقيقياً .
ويتكئ على هذه الحيلة ليبدأ حواره معهما مضيفاً على النص الروح السردية القصصية , مبرراً ما يقنعهما من واقع أفعاله التي تتجاوز أقواله , وهنا تتجلى النرجسية , والرقي والعلو على اللائمين وغيرهم , بل يعلو على اللوم ذاته , وكأنما استعار من القديم لغة التثنية ليضيف إليها أبعاداً من عالمه النفسي الخاص , فهو يرفض الانصياع لموروثه الشعري القديم بالخروج على عادته المعهودة هذا من جهة , ومن جهة ثانية فيجرد من نفسه شخصاً آخر يرفض اللوم
إنه شخص لا يعرف الاستكانة ولا الإناخة ولا قبول الضيم , ولا الصبر عليه , حتى ولو كان في أحلك ظروف حياته , فإذا هو أمام المرض يقاوم ويتحمل , وكأن بيت المطلع يتجاوز مرحلة الشكوى التي نعرفها عند القدماء : ( أطلال – ذكريات الشباب – أيام الصبا ) وهذا لم يستسلم له الشاعر هنا , إنك تشعر معه بمطلع قصيدة فخرية لا قصيدة في الشكوى , فهو أجل من أن يلام ووقع فعاله فوق الكلام , وهو بهذا القياس يتخذ من لائميه موقفاً عدوانياً صريحاً , يعقبه أداء فعل الأمر الدال على ذلك في قوله : ” ذراني ” ثم تأتي ” واو المعية ” مؤكدة هذه الدلالة , راصدة عمقاً متميزاً وهو التوحد مع هذه الفلاة , وكأنه يكشف بغضه للدليل فيها أو – على الأقل – يحقر من شأنه , فما كان ليخشى الهجير , ولا ليحتاج لثاماً يحميه من نيرانه , بل يطلب مواجهة ذلك الهجير , فهو يستعذبه , ويجد فيه ذاته , ويصرح بهذا كله عبر البيتين السابقين موزعاً الموقف المتناقض بين شطري البيت الثالث , وعامداً إلى التوكيد الذاتي الصادر من أعماق نفسه ” فإني أستريح ” ( بوابة – تنفيس ) جاء ليسجل صورة ما يستريح إليه من واقع الصحراء وهجيرها , في موازاة ما يزعجه من الإناخة والمقام , مع اختيار موفق لكلمة { الإناخة } من معجم البداوة المعلق بصورة { الناقة } أو مشهد { البعير } .
ويمتد هذا التوحد وتتصاعد لهجته وتزداد صورته تركيباً ووضوحاً وإيغالاً خاصة حين يتجاوز المكان والزمان ليستقصي بقية أركان الصورة ويستكمل مقوماتها , فيسجل توحده مع ناقته التي ربطها بمتاعه وجعلها رواحله :
عيون رواحلي إن حرت عيني = وكل بُغام رازحةبُغامي
وبنى الصورة على مستويين :
بصري وسمعي , جعل من خلالهما التوحد يقع بين حواسه وبين حواس ناقته مما يضمن سلامة الرحلة عبر الصحراء فناقتي هي أنا وأنا هي , فعيني عينها , وعينها عيني , وصوتي صوتها , وصوتها صوتي , هذا التزاوج والتلبس والإندغام جاء موظفاً لنرجسية الأنا .
ولا يكتفي بهذا فقط بل يستمرئ الشاعر هذه اللغة الحوارية عبر الموروث , فيجد من صوره الكثير الذي اجتذبه ولا يكاد يحيد عنه , فلا زال بنرجسيته وتساميه يصور لنا أنه بدوي خبير بالصحراء , مدرب على فهم أغوارها , وإدراك حقائق أجوائها :
فقد أرد المياه بغير هاد = سوى عدّي لها برق الغمام
فيصور موقفه من ” برق الغمام ” وكيف يشغله عدّه حتى ليعرف أين يسقط مطر السحاب , فلا يخطئ عده , ولا يخيب توقعه , وكأن مشهد التوحد والانفراد لا ينتهي حتى يستدعي الشاعر صورة الرفقة والصحبة – لكنها رفقة من نمط آخر – صحبة تعكس اغترابه وتحكي توحده النفسي ؛ فهو يغترب من رفاقه عن الأنام :
يُذمُّ لمهجتي ربي وسيفي = إذا احتاج الوحيد إلى الذمام
ويتفرد مع { ربه وسيفه } حتى لا يظل وحيداً في فلاته وإن سبق – أيضاً – توحده مع أجوائها , وبذا يتضح حرص الشاعر على استقراء جوانب نفسيته التي تبدو معقدة , وربما أراد الإفصاح عن سر عقدته حين أردفها بتصريحه المحكم الذي ردد فيه رفضه المبدئي لفئة من البشر البخلاء لا يسعده أن يستضاف لديها , حتى وأن لم يجد ما يقتات به على الإطلاق , لأنه كريم
ولا أمسي لأهل البخل ضيفاً = وليس قرًى سوى مخّ النعام
وآنف من أخي لأبي وأمي = إذا لم أجده من الكرام
ثم تجذبه لغة التفرد والتميز النفسي حيث ينسج مثاليته ويسجل سخريته وتهكمه وتعجبه ممن يمتلك حيوية الشباب وقوته ثم ينصرف عن همته وقوته إلى تخاذل واستسلام , وكأن المتنبي لم يجد معادلاً لهذه السلبية سوى نبوة السيف الهزيل , بل يكشف عن تميزه وانفراده وسخريته ممن يجد طريق المعالي ومع هذا لا يتنكبه , بل يحيد وينصرف إلى غيره , وهو انصراف غير محمود لصاحبه , وإذا بالشاعر هنا تشغله صورة المطي وقد فقدت سنامها كناية عن رهقها عبر رحلة الصحراء الشاقة :
ومن يجد الطريق إلى المعالى = فلا يذر المطي بلا سنام
وجاء البيت السادس عشر :
ولم أر في عيوب الناس شيئاً = كنقص القادرين على التمام
حكمة نابعة من مرارة التجربة القاسية وقفلة للأفكار السابقة , فقد اتخذ من الجانب الإيجابي في ذاته مقدمة يدخل بها إلى صراعه وقصته مع المرض جاعلاً من فلسفة حياته ضابطاً يحكم هذا الفخر ويوجهه كما أراد له .
ثم يستقوي بالماضي ويستدعيه بالحاضر وهذا من آلات التسامي فلا يريد أن يعترف بالحاضر بل يستدعي الماضي يقول :
أقمت بأرض مصر فلا ورائي = تخبُّ بي المطي ولا أمامي
وملّني الفراش وكان جنبي = يملُّ لقاءه في كل عام
ثم يعود ليبرز أناه ونرجسيته :
قليل عائدي سقم فؤادي = كثير حاسدي صعب مرامي
فقوله : قليل عائدي ( هروب الآخر منه – غربة نفسية ) وقوله : سقم فؤادي ( محنته النفسية ) وكثير حاسدي ( قوة وعقدة ضاغطة ) وصعب مرامي ( التسامي والنرجسية – تحقيق الطموح ) .
فإذا ما انتقل إلى مشهد { الحمّى } وقد أفاض في تصويره لها , وتراقص معها فهو تارة مجبر , وتارة مخيّر , وثالثة مستسلم لها , وأخرى منتفض عليها فلا زالت أناه تشغله , وهو بين واقعين :
واقع القلق والانزعاج من هول انتظار موعد الحمى ومراقبتها , وواقع التماسك والتشبث بقوة النفس وإظهار مشاهد البطولة والفروسية , يقول :
وزائرتي كأن بها حياء = فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا = فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها = فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري = مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق = مراقبة المشوق المستهام
أبنت الدهر عندي كلُّ بنت = فكيف وصلت أنت من الزحام
جرحت مجرحاً لم يبق فيه = مكان للسيوف ولا السهام
وبعد هذا ينتابه الشوق أيضاً إلى التفرد والتوحد مرة مع إبله استطراداً حول ما سبق عرضه , وأخرى مع جواده وأدوات قتاله , نراه يصارع واقعه المؤلم , ويحاول مقاومته ليحلق من جديد فيتجلى لنا تحامله على ذاته لحمايتها , يقول :
ألا ليت شعر يدي أتمسي = تَصرّفُ في عنان أو زمام
وهل أرمي هواى براقصات = مُحلاّة المقاود باللغام
فربتما شفيت غليل صدري = بسير أو قناة أو حسام
يستشرف المستقبل الذي فقده في الماضي , فهو يتسلح على مرضه بالماضي وبالمستقبل حيث يتمنى الخروج من الضائقة التي وقع فيها , وحاول منها الفرار إلى عالم أكثر رحابة وسعة .
إنها رحابة وسعة ذاته الأبية في { عنان فرسه } أو { زمام ناقته } وإن استغرقه نفسياً زمام الناقة بخاصة , فاشتد شوقه إلى ضروب سيرها من { الخبب } , ثم تأكد هذا الشوق – بما أبدعه من تصوير – بما تاقت إليه نفسه من { حُلّي } الناقة الذي تزينت به , وهو ذلك { اللغام } الذي غطى مقاودها .
ثم يستكمل المشهد قصداً إلى مزيد من النرجسية والتفرد حيث يتمنى أن يجد شفاء نفسه عبر سير في صحرائه أو عبر فروسيته الشاخصة في جواده العملاق , وإذا بالمتنبي في شفاء غليل صدره يعكس بعداً نفسياً متميزاً لديه , يقول :
يقول لي الطبيب أكلت شيئاً = وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد = أضرّ بجسمه طول الجمام
تعوّد أن يغبّر في السرايا = ويدخل من قتام في قتام
فأمسك لا يطال له فيرعى = ولا هو في العليق ولا اللجام
فإن أمرض فما مرض اصطباري = وإن أحممْ فما حُمّ اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن = سلمت من الحمام إلى الحمام
تمتع من سهاد أو رقاد = ولا تأمل كرى تحت الرّجام
فإنّ لثالث الحالين معنى = سوى معنى انتباهك والمنام
يتهم الطبيب بالغباء والجهل , فقد شخص له المرض على منهج الأطباء , ونسي أن الشاعر أشد دراية وأعلم وأعرف منه بحقيقة مرضه , فهو الجواد ( وما في طبه أني جواد ) الذي أرهقه البقاء , وأزعجته الإقامة , فقد تخلى عن عادته , وسُلب كل صور حريته , فآن له أن يضيق بواقعه , إنه يعاني هوان أمرين :
أولهما : أنه فقد حريته منذ أمسك به . و ثانيهما : أنه مع هذا الفقد وذلك القيد لم يجد ما يشفى نفسه أو يشبع جوعه من عليق يقدمه إليه فارسه . يكشف عن هذا بقوله :
فأمسك لا يطال له فيرعى = ولا هو في العليق ولا اللجام
وهنا يتضح كيف أصبحت صورة الجواد معادلاً تاماً لوضع الشاعر بين ماضيه وحاضره , فلا هو نال أمر الولاية التي جاء يحلم بها في مصر , ولا هو وجد حريته لأن ينطلق منها إلى غيرها من الأقاليم , بل ظل أسير الحمّى التي أصابته .
ويزداد اطمئنانه وصبره حين يتذكر فلسفة الحياة والموت بصورة هادئة , يركن فيها إلى تأمل قضية المصير التي تلاحقه , سواء أصابته الحمّى أو غيرها , فإذا سلم منها فلن يكتب له خلود , ولكنه حين يسلم من الموت بها فلكي يواجه موتاً آخر بغيرها , فعالم الموت واحد وهو عالم خاص يختلف عما يعرفه البشر من حالتي السهر والنوم , فما قد يجده من متعة في سهره أو في نومه لن يجد لها نظيراً في موته بعد ذلك , ولكن الحقيقة التي لا يستطيع مقاومتها هي معرفته حتمية هذا المصير , فهو بين واقعين :
واقع موضوعي وهو تهديد للشاعر بالموت , وواقع شعري وهو رغبة الشاعر في الحياة وقهر عوامل الموت , ولك أن تقول هو بين ظاهر يتمثل في الواقع الشعري , ومضمر يتمثل في الواقع الموضوعي .
ثالثاً – ردود الفعل ورفض الآخر :
ينطلق رفض { الذات } للآخر من واقع الإحساس بالعدوانية أو الظلم أو الغبن الاجتماعي , وهو ما قد يتولد عنه الإحساس باغتراب الذات فتبدأ في إعلان التمرد الذي قد ينسحب على علاقتها بذلك الآخر نفوراً وبغضاً .
منذ المطلع في حواره مع لائميه , رفضه اللوم , والعلو عليه , والسمو على أهله , وإذا بفعاله تفوق قول اللائم , بل ربما فاقت فعله أيضاً , فهي مقدمة الرفض لهذا الآخر .
يصرّح برفضه للآخر حين تستوقفه فئة بعينها من أهل البخل , حيث تأبى نفسه أن يستضاف لديهم حتى وإن لم يجد ما يقربه على الإطلاق , وهو رفض له ما يبرره من أنفة الشاعر واعتداده بذاته , وسعيه الحثيث والدائب خلف مطامحه , فأنّى له أن يتنازل عن كبريائه أمام ذلك الآخر خاصة إذا اعتبره بخيلاً .
ويتخطى هذا الآخر إلى الناس عامة يحلل طبائع الناس من خلال ذاته , وكأنما قصد إلى التفصيل بعد الإجمال أو حسن تعليل لما سجله في البيت الأول مما دفعه إلى الممالأة والنفاق لا لخلل في ذاته , ولا استجابة لاستعداد لديه بل لضرورة اجتماعية وجد فيها مصانعة الناس أمراً مفروضاً عليه , حين أصبح الودّ ضرباً من المخادعة والمراوغة , وعندئذ راح يبتسم لكل من يبتسم له , دون أن يبدي خفايا نفسه .
ويعلن بصريح العبارة شكه في أقرب الناس إليه وحذره منه بشكل رائع , حين جعل منطق الشك يمتد حتى للأصفياء , فقد صوره مرهوناً بكونهم بشراً أو – على حد قوله – بعض الأنام , فإذا بالشاعر يأخذ موقفاً مضاداً من كل بني جنسه ممن دفعوه إلى النفاق , ويدفعونه هنا إلى الحذر والشك فيهم .
وفي البيت العاشر يعرض نقيضين : أحدهما يمثل ويتمثل بالمتنبي وهم العاقلون , والآخر الجاهلون الذي يرفضهم الشاعر فهم نقيضه .
ثم راح يستطرد حول أنفته وشموخه وتضحيته , فلا مانع لديه من التضحية بأخيه من أمه وأبيه إذا لم يكن كريماً معه أو هو كريم بعامة , ثم يمتد رفضه للآخر ممن يرون طريق المجد وينكبون سواها , ويصب جام غضبه على الآخر ( مصر ) ولعله يقصد { كافور } أو { سقوط آماله } .
وفي مقابل استسلامه الجسدي للمرض يتبدى إصراره على المقاومة النفسية فلا يستكين ولا يخضع وكأن رفضه للآخر يظل معلقاً بإصراره وإبائه إزاء هذا الرفض وقبول غيره , ولك أن تستكشف عن هذا في قوله :
فإن أمرض فما مرض اصطباري = وإن أحمم فما حمّ عزمي
رابعاً – تضخم الأنا :
يظهر حين يحيل الملوم من اسم مفعول إلى اسم فاعل فإذا بالملوم أفضل من لوامه , وإذ به أجل من لومهم , وإذ بفعاله أوقع في هذا الوجود من فعالهم وكلامهم , مما ينم عن شخصية قوية آثرت الانطلاق عبر مجال التوحد والرفض والتمرد والثورة .
إنه يعتد بقدراته المطلقة منذ هذا الالتفات بين ( وقع فعاله – فإني ) , وما تلاه من تزاحم ضمير المتكلم ( الأنا ) بهذه الصورة المتلاحقة { ذراني – وجهي – أستريح – أتعب – أرد – لا أمسي – جزيت – حرت – أشك – آنف – أجده – أرى – عجبت – ولم أر – أقمت – بذلت – أراقب – أرمي – شفيت – فارقت – تعود – يدخل – أمسك – يرعى – أمرض – أحمم – أسلم – أبقى – سلمت – صرت – اصطفيه – لست – ملّني – عائدي – فؤادي – حاسدي – مرامي – نفسي ..)
وحتى في حواره مع الحمّى نلحظ موقفه الذاتي ، نعم لقد خضع لها وتقبلها على خوف منه وفزع , ولكنه لم يتورع عن تصوير ضروب من هذا التضخم في مواجهتها فهي تبدو على درجة من الجبن والمخاتلة إذ تأتيه متخفية ليلاً في لوحة الزائرة البغيضة إلى نفسه , ولذا يحاول مراوغتها ببذل ما يستطيع من المطارف والحشايا وإذ بها تأبى إلا أن تبيت في عظامه , وهنا يبدو الشاعر وقد استسلم لمرارة الواقع ؛ فما كان عليه إلا أن يتقبل هذا الانتصار المؤقت , وفيه تتعدد محاولات الذات للمقاومة إلى أن تتهيأ لها الفرصة مرة أخرى لبروز هذا التضخم الذي تعكسه لغة حواره مع الحمى حين صورها بنتاً للدهر فكانت جزءاً مكملاً لصورة الدهر لديه .
ويتخطى هذا الجانب إلى جانب فخري بفروسيته التي لم تبق من جسده مكاناً للسيوف ولا السهام كناية عن كثرة معاركه وكثرة انتصاراته فهو قائد وأمير لا شاعر ولا مبدع فحسب
ولا يكاد الشاعر يختم قصيدته دون وقفة أكثر تميزاً وانفراداً عن تضخم الأنا منذ وضع تلك الصيغ الشرطية التي تكشف عن مزيد من اعتداده بنفسه , فقد يمرض جسدياً كما هو حاله , ولكنه نفسياً سيظل أبياً قوياً ورافضاً الاستسلام لمرضه .
لقد احتوته ذاته فلم تنفصل عنه , ولم تخذله , إنها تشع بإشعاعاتها المتوهجة منذ المطلع ، نرصدها في الألفاظ الآتية : ( تجل عن الملام – وقع فعالها فوق الكلام – ترد المياه بغير هاد – تشك – تأنف – لا تقنع – تقيم – تبذل تعكف – تراقب – تنصرف – تشفى – تخلص – تفارق – تغير – تتحدى المرض – تتمتع بمعطيات الواقع )
وإن كشفت القصيدة عن ألفاظ أبدى الشاعر فيها عن تحطم هذه الذات ينتقي لنفسه منها :
( الوحدة , الشك , التعجب , الإقامة , الملل , السقم , العلة , السكر , مراوغة الحمى , الخوف , التمني , السخط , الرفض , المرض , السهاد , الرقاد , المنام , الحسد , الوداع , الحمى )
خامساً – تبدد الحلم
تنطمس صورة الحلم المثالية إلى صورة سوداءقاتمة أملاها عليه الواقع الاجتماعي , فلم يجد إلا المراوغة والنفاق وصيغ الخداع والمداجاة , وإذا بحث عن الأصالة والجادة لقي من الناس الخسة والنذالة والبخل والخبث وأخلاق اللئام , وإذا هو يحدد لهم طرق المجد وسبيل المعالي ويهيئ لهم الأداة من ( القد والحد والمطي والجواد ) فينتكبون غيرها , وإذا هو يبحث عن الكمال في زحام عالم تشغله النقائص والمثالب وصور القبح , وإذا هو يبحث عن سمير له في حالة مرضه , فما وجد إلا حاسداً حاقداً , أو عدواً ناقماً , وما وجد من العواد إلا القليل ومن الخصوم وجد الكثير .
سادساً – الدلالة اللفظية على الموقفين :
1- التضاد :
تستوقفنا دلالة الألفاظ { أستريح } وفي مقابلها { أتعب } فما بين الراحة والتعب هو مسافة ما بين الأمل في تحقيق الحلم وبين الإنذار بسقوطه , وفي مقابل { القد } و { الحد } نجد السيف { ينبو } وكذلك المتخاذل أو الساقط على نفس القياس من التضاد , وفي مقابل ما كشفه من { عيوب الناس ونقص القادرين على التمام } رأى من نفسه ما لم يقنع منه بحسبه ولا نسبه ولا جد همام .
وفي مقابل رؤيته { للأجداد } يرى في زمنه { أولاد اللئام } , وفي موازاة { العاقلين والتصافي } رأى . و { الجاهلين والوسام } , وفي مقابل { ثباته وجموده } يتأمل ما وراءه وما أمامه من خبب المطي , وفي { مؤازرة ملل الفراش منه } يصور رفضه في الماضي لهذا الفراش , وفي مقابل مخاوفه من لقاء الحمى كان شوقه وهيامه في مقدماته , وفي موازاة حاضر الجواد رأينا ماضيه .
2- لغة النفي والإثبات :
فهو يسجل راحلته عبر الصحراء والهجير , وينفي حاجته إلى دليل يقوده فيها , وهو يثبت خبرته العميقة بالأجواء وعد البرق وينفي حاجته إلى لثام يُحتمى به من شدة هجير الصحراء , وفي ثبوت الخبرة والتأكيد عليها يأتي حرصه على نفي الهادي الذي يهديه إلى موارد المياه , وفي مقابل إثبات حاجة الوحيد إلى الذمام ينفي حاجته إلى الصحبة إلا بقياس مختلف .
وتراه يأبى من حياته أن يتوقف عن شرف نسب { ولست } فإذا به يتعجب ممن يجد طريق المعالي على لغة الإثبات وهي ما أكملها بلغة النفي سخرية وتهكماً { فلا يذر المطي بلا سنام }
فإذا عاد إلى رؤيته لعيوب الناس عمد إلى النفي { فلم أر في عيوب الناس شيئاً } فإن صوّر إقامته في مصر على الإثبات عاد إلى نفي ما يتمناه من خبب الإبل والرحيل , فإن جاء إلى صورة الحمّى وأثبت لها الحياء نفى عنها انشغالها بزيارته في الظلام { فليس تزور إلا في الظلام } فإن أثبت مراقبته لها نفى عن هذه المراقبة أدنى صور الشوق إليها , فإن أثبت ما أصابه من كثرة الجراح والألم قبل الحمى نفى أن يوجد في جسده مكان للسيوف أو السهام , فإن صور على الإثبات أمنيته في فراق الحبيب أو البلاد لجأ إلى النفي فكلاهما لديه { بلا وداع } و { بلا سلام } , فإن أثبت ما قاله الطبيب في تشخيص مرضه اتهمه بالجهل , ونفى شخصيته { وما في طبه } , وراح يثبت عكس ما عرضه الطبيب , فإن توحد مع جواده شغله الإثبات فإذا الجواد قد { أمسك } وإذا النفي يكمله { لا يطال له } و { هو في العليق ولا اللجام } وفي قلقه بين استسلامه للمرض ومقاومته له تراه موزعاً لغته بين الإثبات والنفي { فإن أمرض } { فما مرض اصطباري } و{ إن أحم فما حم اعتزامي } فإن خرج من الدائرة إلى النجاة من المرض تراه يعيش نفس المعاناة { وإن أسلم } { فما أبقى }
>
وعليه فقد تضافرت الدلالات جميعاً سواء أكانت عن طريق التصوير أو عن طريق الحوار أو عن طريق المفردات الموحية , فقد عبر عن توحده النفسي بصور موحية متلاحقة , لا غموض ينتابها ولا تعقيد يعرقلها أو يكبح جماحها يقول :
وزائرتي كأن بها حياء = فليس تزور إلا في الظلام
يصور الحمى زائرة له , فبدأ في إلباسها الثوب النسائي الذي يلفها به الحياء , ويختار الظلام زمناً يتسق مع ذلك الحياء , ومن ثم فهو يتحاور معها عبر أكثر من مستوى : فمرة يأتي حواره صامتاً حين يسارع إلى إعداد المطارف والحشايا , لعله يراوغها ويقنعها بمبيت طيّب فيها , لكنها تتأبىعلى ما أعده وتصر على المبيت في عظامه , فهي لغة التحدي والمراوغة , والفوز فيها للمتحدى الذي ينتهي بما أصاب الشاعر من أنواع السقام , وما ينتهي به الأمر به من رهق حتى الصباح فإذا بالصبح – تصويراً – يطردها فيحقق للشاعر ما عجز عن صنعه معها , وإذا هي تغادره باكية حزينة من خلال دموع غزار تكتمل بها صورة الغسل الذي أصابت به مريضها .
وتتجلى عنده الغريزة الجنسية في قوله :
إذا ما فارقتني غسلتني = كأنا عاكفان على حرا م
ويستعين بالحوار الداخلي إلى إبراز رؤيته لمن حوله تتضح في : { أشك , آنف , كيف وصلت , جرحت , حواره مع الطبيب , حواره مع نفسه من خلال السخرية من الطبيب وتشخيصه , حواره بما يراه من مفارقات الحياة والموت } وتتداخل المفردات فتزداد تعقيداً وتشابكاً من واقع رؤى الشاعر لذاته انقساماً بين منطقتي الاسترخاء النفسي وبين الإرهاق الدائب :
( الراحة – ورود الماء – الرفقة – الإقامة ) .
وعلى سبيل الرهق النفسي تستوقفنا عنده منها : ( التحدي , الرفض , التعب , الأنفة , الطموح , الاستسلام ..) وبين هذا وذاك يلتقي بعدها مع المفردات المكانية التي تمثل للشاعر البغض ورفض الواقع : { أهل البخل , أرض مصر , الفراش , المطارف والحشايا , العظام , الجلد , النفس , مكان الجرح , البلاد , الجمام , السرايا , الرجام }
> إلا أن شاعرنا لازال مثالاً للصبر وعدم اليأس , فبوارق الأمل لا زالت تشده شداً وترسم له خارطة الطموح مثل : ( برق الغمام / زمن الأجداد / الصبح / القتام / السرايا / المطي / الجواد / السيف / الرمح ) . وما فتئ يعاني معاناة شديدة من طلق الأخلاق السلبية المتمخضة عن : { اللوم والملوم واللائم ، البخلاء , النفاق , الجاهلين , اللئام , النقص } إلا أنه يجد المنعة والأمان في عالمه الصحراوي الذي يمثل جوهره البدوي الطموح ورمزه الفخري الأصيل عبر مفردات عزف قيثارتها بلحن الشموخ, فقد ملكت الصحراء لبه حتى لا يكاد ينصرف إلا إليها : ( الفلاة – الدليل – الهجير – اللثام – المياه – برق الغمام – الزمام – النعام – المطي – السنام – الخبب – العنان – الزمام – الراقصات – المقاود – اللغام – الجواد – السرايا – القتام – العليق – اللجام ) , حقاً لقد ملأ الدنيا وشغل الناس , واستحق أن يدرس أكثر من ألفي دراسة.
>