صحيفة عسير – د.صالح الحمادي:
زين مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل المشهد الثقافي السعودي بأخر إبداعاته الفكرية ” إن لم…. فمن…!؟ ووضع أدوات الاستفهام كأدوات صلة وتواصل بينه وبين القارئ بأسلوب شيق وممتع مع فتح قنوات الحوار مع الذات ومع الذكريات المتدرجة بين التمرة والجمرة ، وحلو الزمان ورديه ، في برواز حقيقي للمعاناة من صميم الذات وحتى الأجنبية.
الكتاب في محتواه عالي الجودة رفيع الطرح والمنهج تغلفه البساطة والصدق والحكمة والفراسة والدهاء والذكاء واشتمل على القيم والشموخ والأنفة وشاعرية الأمير واحساسه المرهف كمجموعة إنسان.
«إنَّها وقفات في مراحل زمنيَّة
ونظرات تأمُّليَّة لومضاتٍ ذهنيَّة
هزَّتها الصدمات وثبَّتتها الغايات
لم أرفض المراحل.. ولم أتمسَّك بالفترات
أخذتُ من كل زمان ما قدَّم
وتركتُ لكل وقت ما أخَّر
عايشتُ أيامي.. وداعبت أحلامي
وأخفيتُ آلامي..
أعترفُ أنَّني لستُ من العلماء الجهابذة
لكنِّي نبتة هذه الأرض
ومواطن هذا الوطن
عشقتُ ترابه
وعانقتُ سحابه..
وأعترفُ أنَّني لم أخطِّط لمستقبلي
ولم أرسمْ طريقي
ولم أنتهز الفرص..
آمنتُ بالقدر.. وعايشتُ الحياة
واستمتعتُ بالتحدِّي… (…)
نجحتُ وأخفقتُ.. تأنيَّتُ واستعجلتُ
وأصبتُ وأخطأتُ..»
أنطلق المؤلف من بداية النهاية موضحا أسباب تقديمه لهذا السفر معلنا عن رغبته السردية القصصية بعيدا عن السير الشخصية التقليدية مشيرا إلى أن هذا الوميض مجرد لمحات اختزلتها الذاكرة وقال لم اختارها بعناية بل هي التي اختارتني ، وعرج على بناء سطره الحيوي في هذه الحياة وكيف عصفت به مطبات هوائية تجاوزها بنجاح، روضها بالفراسة والصبر والجموح متلذذا بالزين غالي لكن الأزين أغلى ولكل شراي بضاعة وسوقي…….القارئ يحس بهذه التجربة ويفهم كيف عسف المؤلف المهرة التي تغلت عليه وروضها بالقامة الشامخة التي لا تنحني لعاصفة المعاناة وليلها البهيم.
المؤلف كتب ميلاده وحمل نعشه على كتفه ، وسرد أهم المحطات في حياته بمفردات قليلة عميقة صادقة شاملة وافيه لا تحتاج للزيادة ولا النقصان ، أسماه جده مؤسس هذا الكيان السعودي الكبير وعاش طفولته بين الأحساء والرياض ومكة أطهر بقاع الدنيا التي اتاها صبيا وعاد لها أميرا ، جرب غربة الداخل بكل ألوانها، ثم جرب الغربة في الخارج …. بداية الغربة انفصال والدته عن والده الملك فيصل بن عبد العزيز وهو في عامه الثاني من عمره ليستقر مقامه في الأحساء…..
يقول المؤلف: أتذكر مجالس الأمير سعود بن جلوي.. والهيبة كأنها الطير على رؤوس الجالسين.. تتفادى عينه نظرة الناظرين.. وتتلعثم ألسنة الجالسين، وفي السادسة من عمر المؤلف هبطت في مطار الأحساء طائرة جده ” الملك عبد العزيز” فشاهد جده العظيم لأول مرة ووالده الملك فيصل– يرحمهما الله – يقول عن هذه اللحظة :
عبدالعزيز.. هذا الرجل الذي لم أر مثله رجلا
شامخ القامة، رفيع الهامة
في وجهة صرامة، وفي شفتيه ابتسامة
وفي نظرته شجاعة وشهامة
ومن هنا بدأت نقطة التحول حيث يأتي شريط الذكريات عن والده الذي اختاره الملك عبدالعزيز يرحمه الله في سن الثالثة عشر من العمر ليرأس وفد إلى بريطانيا وفرنسا.. واستعرض المؤلف نشأة الملك فيصل في بيت جده لأمه.. كبير العلماء ومفتي البلاد حينها…..المناصب التي تقلدها والمواقف العديدة التي تكشف قدراته القيادية ورؤيته المستقبلية مثل قرار فتح المدرسة النموذجية في الطائف فكانت بداية المؤلف التعليمية التي حقق فيها شهادة الثانوية ومنها بدأت غربة الخارج حيث اتجه للدراسة في الولايات المتحدة وسرد المؤلف محطته الرياضية كلاعب كرة قدم، ثم تحولاته التعليمية ليكون أول طالب سعودي يحصل على الثانوية العامة وما يعادلها ثلاث مرات واتجه للدراسة في غربة أخرى لم تطول ليجد نفسه مسئولا عن قطاع الشباب والرياضة في السعودية قبل إتمام مشواره التعليمي….
في منصبه القيادي الأول أتضح مدى قدرته على كتابة السطر الحيوي وقدرته على اتخاذ القرارات التاريخية التي تبقى مع الزمن ما بقي اللحاء فقد شهد أول وفد يترأسه رفع اليد اعتراضا على ضم دولة العدو ” إسرائيل” للكتلة الأولمبية الدولية فكسب ” خالد الفيصل بن عبد العزيز” التصويت وخرجت إسرائيل إلى غير رجعة.
سرد المؤلف ذكرياته مع الأدباء والصحفيين والطنطاوي وصالونه الثقافي وصمت عن أهم قرار رياضي تبناه وأسسه وهو قصة إقامة دورة الخليج حينا من الدهر” استنطقته لأول مرة عندما كنت مديرا للتحرير في صحيفة الوطن وقدم لي التفاصيل كاملة وكان شاهد الموقف رئيس التحرير الفذ قينان الغامدي ” وبسبب ذلك الحوار عقد الوفد البحريني مؤتمرا صحفي على هامش دورة الخليج بالرياض يدًعون أن المبادرة لهم ومنهم، لكن شهود التاريخ تصدوا للوفد البحريني، وتم تأكيد الأسبقية للأمير خالد الفيصل وتم تكريمه خليجيا فيما بعد”
انتقل المؤلف بسلاسة وبمهارة فائقة من مهمته الأولى ” رعاية الشباب ” إلى مهمته الجديدة أميرا لمنطقة عسير معطرا تلك الذكريات بقيمة الأمارة من الناحية الإسلامية مشيرا إلى هذا النظام الإسلامي الإبداعي وقال إن الإمارة سلطة لحماية المواطن والمقيم وضمان حقوقهما وقال الأمير يُعيّن لخدمة المواطن والوطن، عرج المؤلف إلى أول نظام للأمراء الذي صدر بعد توحيد البلاد بثمان سنوات وبالتحديد عام 1359وتوقف عند الوصية المدوية في إذنه والتي اتخذها منهجا له في حياته قائلا تلقيت التوجيه لأكون أمير لمنطقة عسير في شهر صفر 1391 بعد اتصالات متتابعة من الأمير محمد العبدالله الفيصل، والملك خالد بن عبدالعزيز، الأمير سلمان بن عبدالعزيز” أمير الرياض حينها ” تبشرني بالثقة الملكية الكريمة من ملك البلاد ” الملك فيصل بن عبد العزيز”
وكشف المؤلف أن اللقاء بالملك فهد بن عبدالعزيز يرحمه الله ساهم في تحديد الاتجاهات ومسارات التنمية وتعزيز الثقة وقال المؤلف اتجهت للملك فيصل بحثا عن توجيه أو وصية فقلت له بماذا توجهني يا سيدي؟ قال: أمرك بيدك افعل ما تشاء.. وبعد إصرار أعطاني الوصية فقال ” اطع أعمامك” ثم زاد قبل المغادرة إلى عسير أوصيك بمخافة الله.. وإرضاء الضمير وقد كان.
استعرض المؤلف مشوار التنمية في عسير وانصف الرجال الذين كان يراهن عليهم وكانوا معه في السراء والضراء ثم استعرض المحطة الثالثة في حياته ” أميرا لمكة المكرمة والوعد الذي قطعه لأهل منطقة مكة المكرمة والشعار الذي اتخذه من خلال مشاهدته للكعبة المشرفة … يقول «تجلَّت لي الحركة.. نعم الحركة.. فكلُّ شيءٍ في مكَّة حركة، وخارجها حركة.. والوصول إليها والخروج منها حركة.. والطواف والسعي حركة.. إذن.. لا بدَّ أن تكون الحركة هي العنصر الأساس في مخطط التنمية لمنطقة مكة المكرمة…..توقف المؤلف عند ذكرياته مع قصر الملك فيصل وكأنه يكتب نوتة أخرى، ثم عرج على محطته الرابعة وزيرا للتعليم ثم العودة لأطهر بقاع الدنيا مكة المكرمة ….
تجارب خالد الفيصل بدأت من تجارب الحياة.. ومن مجالس الرجال……. يقول:
«هناك من سوف يعتقد أنني نسيت..
أعمالاً أخرى تستحق الذكر..
ولكني آثرت أن أقتصر على التجارب التي شكلتني فكر إنسان..
والتي شكلتها للوطن بنياناً..
هل تؤطر الكلمة فكراً؟
كتاب خالد الفيصل رائع ويستحق القراءة والاقتناء ….لم اقدم دراسة نقدية للكتاب ولم اتوقف عند أهم المحطات فيه فهذا يحتاج معايير بحثية أكاديمية دقيقة قد تخرجنا من جنة المؤلف إلى نار محبيه …من بادي الوقت أن أعرج على ملاحظات بسيطة قد تكون إضافة للمنجز التالي….
الكتاب كان يحتاج للتوثيق بالصور ليكون تحفة للدارسين والباحثين وبحاجة إلى نوعية ورق وطباعة تتناسب وقيمته الفنية والعمرية بحيث يكون ” الغلاف كوشيه مسلفن مطفي – تجليد برش – العنوان بصمة – ورق أوفست بيج 70 غرام ” ومن الملاحظات النقدية أن دائرة خالد الفيصل الضوئية التي منحها للأخرين حتى وصلوا للعالمية تضم أسماء مرموقة تجاوزها الكتاب !!!!
في ثنايا هذه المحطات 1940 – 2017 ألف قصة وقصة وفيها ومنها تستطيع الأجيال المقبلة الاستفادة من القدوة القائد الأمير الرائع خالد الفيصل الذي قدم الكثير وذكر القليل ولا زالت في جعبته مواقف ودروس وحكايات يعرف جزء منها من تشرفوا بالعمل معه والجزء الأهم لا زل يختزله في ذاكرته ….أجمل قفلة للمؤلف عبارة «كتاب ليس فيه أنا» .
لله دره “إن لم يكن خالد الفيصل فمن؟” ننتظر مفاجأته الثقافية الكبرى التي بدأها من أبها ولا زالت في دولاب أسراره ولن أبوح بها….. ننتظر تفاصيل الرواية والحبكة الدرامية لشاعريته ورسمه وتأملاته ” لو وفيت وجيت يوم زرتني …. يا ليل خبرني عن أمر المعاناة…. اتعبتها ترقى سنود المعالي … دستور…. إن لم يكن خالد الفيصل فمن؟ …. لا أحد!!!!
>