إنه سيلُ الإعلام الجارف الذي انفكّ علينا قبل عقدٍ من الزمان يكبرُ مع الوقت , و تهيج ثورته مع تطور وسائل الإعلام و التواصل , فأصبح أبناؤنا و كثير من الناس يحنون رؤسهم أكثر مما يرفعونها كبارا و صغارا , في البيوت و في مقر أعمالهم و في المجالس العامة ! و لولا النوم لما تركوا تلك الأجهزة أبدا !
فما هو السر الذي يجعلهم مدمنين لمشاهدة تلك الشاشات و الالتصاق بها ؟؟!
إنها الجدة و حداثة الطرح و لغة التخاطب , و الحدث الذي تشاهده مباشرة , و سهولة التواصل وسرعة الوصول , و تنوع المطروح و سحر الصورة , و مخاطبة العواطف و الاهتمامات !
و إن عرفنا السر فما هو الأثر الذي يحدثه هذا الإدمان ؟
و الجواب أنا قد نثق بحكمة و قرار الكبار الذين يعرضون ما يرون على عقولهم لكن ما ذا نفعلُ مع أولئك الذين يمتلؤون شبابا و عاطفة ؟! و حباً لمعرفة الجديد و الساحر الذي يدغدغ عواطفهم , و ربما يتحكم بعقولهم ثم يكتشف رب الأسرة أن ابنه أصبح خطرا على نفسه و ربما المجتمع بعد فوات الأوان !
لقد كان البيت و المدرسة هما من يتشارك في التربية , أما اليوم فيقضي غالب أبنائنا جل وقتهم مع هذه الأجهزة , و قد تستطيع أن تتحكم كأب في سلوك صغارهم فماذا تفعل مع كبارهم الذين تجاوزوا سن الطفولة و أصبحوا في نهاية المرحلة الثانوية أو الجامعية , و ربما صاروا رجالا و نساء في سن الشباب مسؤولين عن أنفسهم و أسرتهم الجديدة !
ماذا نعمل تجاه تأثير أولئك الذين يزيفون واقع الحياة إلى منظرها الخيالي و المثالي وسط تلك الشاشة و في تلك البرامج حتى يكره أبناؤنا و زوجاتنا حياتنا البسيطة و العادية ؟
كيف نحمي أطفالنا من تلك الألعاب و كيف نمنعهم من هذا الإدمان اليومي و كيف نعرف كل ما يعرض فيها و هل نترك حياتنا و أشغالنا لنقف عندهم حراساً طوال اليوم ؟
من يستطيع أن يعرف كل أصدقاء ابنه و ابنته في الواتسب و في وسائل التواصل الأخرى و إذا عرفهم كيف يعرف تأثيرهم على أسرته و أبنائه ؟
هل نظل صامتين هكذا و نردد : انتبهوا احذروا اتركوا أغلقوا ناموا افصلوا النت !!
نحمل جوالاتهم معنا و نغلق شبكة الانترنت أو نحملها معنا و نضعها في الخزنة ؟؟؟!!
المؤكد أن لدينا جهات عدة و مشكلات عديدة و لا نعرف كيف نتصرف أمام إدمانهم للأجهزة و أمام خوفنا عليهم مما يشاهدون في ألعابهم و في حسابات من يتابعونهم و في ما يجرهم إليه فضولهم في اليوتيوب و غيره ! و إذا عرف بعضنا كيف يتصرف و كيف يربي فأنا على ثقة أن غالب الناس لا يتصور حجم المشكلة و ربما لا يدري بعضهم أن هناك مشكلة أصلا !!
نحن جميعا لدينا القدرة لتحديد المشكلات و الإعلان عنها و نملك مهاراتنا في النقد و توجيه النصائح لبعضنا و لأبنائنا لكن هذا السيل الكبير الهادر يحتاج لسد كبير(شخصية متزنة ) يواجهه و يخفف من آثاره في البيت و في المدرسة و في وسائل الإعلام نفسها و من مؤسسات المجتمع التعليمية و الاجتماعية و الأمنية !
إن مؤتمراً أو مؤتمرين او ندوة أو ورشة عمل أو مقالا في صحيفة لن يحل الموضوع ! بل على وزارة التعليم التي نعتمد على الله ثم عليها في التنوير و التربية أن تدخل منهج التربية الإعلامية ضمن خطتها في المدارس سواء في مقرر منفصل أو ضمن مفردات المقررات الأخرى أو في أنشطتها المختلفة . على الأقل نعترف أن لدينا مشكلة و نسعى لحلها في المدرسة !
أما نحن كآباء فلابد أن نكون قدوة أمام أفراد أسرنا فيما نرى و ما نتابع , ثم نعقد جلسة مصارحة معهم نوضح خوفنا عليهم و نذكرّهم أنه ليس كل ما يلمع ذهبا , و لا كل صديق في هذا الفضاء هو صديق حقيقي , و لا كل فكرة ساحرة هي فكرة جيدة ! و لا كل شيئ يستحسن تجريبه و البحث عن كل غامض و غريب !
و بين فترة و أخرى نعرض عليهم أخباراً مما يحدث هنا و هناك و لعلهم يستطيعون معرفة الهدف من هذه الخبار و القصص! و الحذر من مآل أصحابها ! و لو وجدنا طريقة مناسبة لمشاركتهم معرفة ما تحتوي جوالاتهم فهو الأفضل . و إن حددنا لصغارهم وقتا مناسبا في اليوم لتعودوا على النظام و التنظيم مع هذه الأجهزة و خف الإدمان و قل الخطر و التأثير الصحي و النفسي !
أما مؤسسات المجتمع الرسمية و المدنية فعليها ألا تتوقف عن التنبيه لآثار هذا السيل العظيم و عرض النماذج الحسنة و الطرق الأفضل للتربية و التعامل مع وسائل الإعلام و التواصل !
و تحذر ممن يريدون بشبابنا و بلادنا السوء و من يسعى لتدمير وحدتنا و التفافنا حول قادتنا !
ثم علينا أن نكرم النماذج الإيجابية التي تتحول من متلقي إلى منتج إيجابي ضمن المبدعين القدوة لتشجيع الشباب و الشابات على الانتاج الإعلامي المفيد المتوازن و التواصل المثمر .
إن كتابة مقال عن هذا الموضوع الكبير ليس سوى تحريك لصفحة الماء أما البحر فعميق جدا ! و كل محاولة لمعالجة مرض مزمن بمسكن هي محاولة فاشلة بل لابد من عرض المشكلة على المختصين و إجراء التحاليل و تشخيص الداء و صرف الدواء المناسب حتى لو احتجنا لبتر شيئ قبل أن تقع فأس الإعلام و وسائل التواصل في رأس المجتمع و تهدد بتدميره ونحن لازلنا نحاول ان نرفع رؤسنا و رؤس من نحب من هذه الانحناءة الطويلة !
>