في تسعينيات القرن الماضي زار الإمبراطور الألماني غليوم الثاني دمشق برفقة زوجته، فخرجت الجموع الشاميةُ لاستقباله والترحيب به، وحين وصول الوفد قلعة دمشق لفت انتباه الإمبراطورة حمار أبيض فاقع لونه يسر الناظرين، فطلبت من والي الشام في حينه: مصطفى عصام باشا أن يأتيها بالحمار لتأخذه إلى برلين كتذكار من دمشق، وبعد عناء توصل والي دمشق لصاحب الحمار واسمه كما قيل: أبو الخير تِلِلُّو، فطلب منه الوالي أن يهدي الحمار للإمبراطورة الألمانية، فرفض صاحب الحمار تِلِلُّو هذا الطلب، فاستغرب والي دمشق من هذه الجرأة، لكنه كظم غيظه وعرض المبلغ الّذي يريده أبو الخير ثمناً للحمار، فاعتذر تلِلُّو وبشد أن يهب حماره أو يبيعه من الإمبراطورة، وقال لوالي دمشق: سيدي لدي عشرة من الخيول إن رغبت أهديتها كلها للإمبراطورة إكراماً لك، أما الحمار فلا، فسأله والي دمشق عن السبب فقال: سيدي لو ذهبت الإمبراطورة بالحمار معها لبرلين فسيسأل الناس عنه؟ فيقال: هذا حمار شامي، عندها ستكون بلادنا مثاراً للسخرية والتندر ويقال: حمار شاميٌ، ثم يُقال: ألم تجد الإمبراطورة في بلاد الشام ما يعجبها إلاّ الحمار فأحضرته معها؟!! لذا لن أقدمه هديةً لها ولن أبيعها إيّاه.
ما فعله أبو الخير تِلِلُّو كان عين الصواب ويمثل الوطنية على فقره وحاجته، والانتماء للأوطان لا يحتاج لشهاداتٍ عليا، ولا لثقافة مميّزة، حب الأوطان فطرةٌ فطر الله عليها الإنسان الفهيم، كما فطر عليها الحيوانَ البهيم، فالطيور المهاجرة تعبر القارات، وتقطع المسافات عائدةً لأوطانها، والأسماء تخالف تيار المياه، وتتعرضُ للفناء لتصل لوطنها الأوّل، والإبل تحن لأعطانها والطيور لأوكارها حتى تعود لأوطانها الأصلية، ضاربةً أروع الأمثال، وأصدق الانتماء معرِّضةً حياتها للمخاطر، ومضحية بالخضرة والنضرة والمياه التي هي فيها لتصل لمكان ولادتها التي قد تكون صحراء قاحلة، أو جبالٍ جرداء، أو سهولٍ قاحلة، إنها فطرة حب الأوطان التي جعلها الله عديل حب الحياة” وَلَوْ أَنّا كَتَبْناَ عَلَيْهِمٍ أَنِ قْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اْخْرُجُواْ مِنْ دِياَرِكُمْ ماَ فَعَلُوْهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ مِنْهُمْ” فهل من غادروا بلادهم ميمِّمين وجوههم شطر الغرب الصليبي لاجئين ومعارضين، ومتحوّلين لأبواق مأجورة لصالح أصحاب المصالح يعون ما فعلوا بأنفسهم وأسرهم، وهل كان أبو الخير تلِلُّوْ أكثر ثقافة أو ثراءً منهم؟ أم كان أكثر وطنيةً؟ وليت هؤلاء الّذين ذهبوا وبلا رجعةٍ أبقوا في أنفسهم ولو ذرّةً من الشرف لأوطانهم فضلاً عن الدين والتزموا الصمت، أو نطقوا بالحق، لكنهم جمعوا بين الخيانة والكذب فباعوا أنفسهم لأصحاب الأحقاد أو المطامع على هذه البلاد المباركة، فتراهم يُقْسِمونَ بالليل ومصبحين، ولا يستثنون أنهم مظلومون، وأن أعداء هذه البلاد المباركة هم الغالبون، وهذه شِنْشِنةٌ نعرفها من أخزم، شنشنةُ الدرهم والدولار، والأسوياء ليسوا كهؤلاء، فهم ينتمون لأوطانهم كما ينتمون لأمهاتهم، فإياك أخي المسلم أن تغدر بوطنك حتى لو لم تجد فيه سوى الرصيف لتنام عليه، لكن هذا لمن يعقل أو ألقى السمع وهو شهيد، فعذراً أيتها الشجرة المباركة إن تساقطت بعضُ أوراقك، أو تنكر لك من استظل بظلك وأُتخِمَ من عطائك، فلا تتهاوى إلاّ الأوراقُ الصفراء، ولا تُعدمُ الحياةُ إلاّ في الشاسعة القفراء، فليس وطني ما أعيش فيه، بل ما يعيشُ هو فيَّ، بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ، وأهلي وإن ضنوا عليَّ كِرامُ، أقِلّوا علينا لا أباً لأبيكمُ، إذا لم تكونوا مثلَ أبي الخير تِلِلُّو.
أ.د: عبد العزيز بن عمر القنصل
جامعة الملك خالد – كلية الشريعة وأصول الدين
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة>