بقلم / علي أحمد معشي
يجمع كل العقلاء والأسوياء في العالم على أهمية الأخلاق الإنسانية المشتركة بين الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأديانهم ، مثل حب الخير للغير والاعتراف بالفضل لأهله وتقدير الابداع والجمال ومراعاة مصالح الآخرين، وغيرها من الأخلاق الفاضلة، وعندما تضمحل هذه المعاني السامية والأخلاقيات الرائعة ويحل محلها الإقصاء والحرب ضد المبدعين والمتميزين ، وظلم أصحاب العطاء والأيادي البيضاء فذلك نذير شؤم على الفكر والثقافة والتطور الإنساني ، والعمران الاجتماعي ، مما يسبب القلق والخوف من الاقدام على الإبداع لدى المبدعين والمفكرين والمخترعين، وقد يتسبب في تحولهم إلى العزلة والاحباط والتقوقع حول ذواتهم أو إلى الهجرة والهرب من المحيط الذي لا يتيح الفرص ولا يدعم الأفكار الابداعية، بسبب تزايد الإقصاء وعلو كعب الحواحز والعوائق المثبطة والمحبطة.
ومن المحزن أن المجتمعات عموماً والمجتمع العربي على وجه الخصوص يغص ببعض الأفراد الذين يحملون ما يمكن تسميته بالأمراض الاجتماعية والعقد النفسية نتيجة إخفاقهم وفشلهم الفردي الذي منعهم من التميز والإبداع ، فانعكس سلباً على أفكارهم فأمرضها وعلى نظرتهم للآخرين فشكل منها سهاماً قاتلة ، حتى تحولوا من العمل والانتاج والانجاز إلى البطالة والتفرغ لخصومة المجتمع ومحاربة كل من يعمل أو يبرز، والبحث عن مثالبه وعيوبه لانتقاصه ومحاربته واتهامه وتأليب الآخرين عليه بدواعي كثيرة ومختلفة ، فتارة تختلط هذه الثقافة المؤذية بالتعصب القبلي والعنصرية المقيتة فتعمل على الانتقاص من المبدع ورفع أسهم القريب المنتمي لذات القبيلة أو الطائفة أو الشلة ولو لم يكن الأكفأ ، وهناك نوع آخر من الإقصاء يمارسه نوع آخر من الناس وهم ربما يتسنمون مناصب قيادية ويمتلكون قرارات حيوية من خلال الإصغاء لرسائل الوشاة والمغرضين دون تحليل أو تنقيح، وقبول ما تشير إليه أصابع الاتهام، وهنا يجد المبدع والباحث والقارئ والكاتب نفسه في حالة من الإقصاء الغير مبرر دون نقاش أو حوار بل يتم هدر كل جهوده ومصادرة كل تضحياته، دون الرجوع إلى حقه في ممارسة ابداعه وعطائه .
ومما لا شك فيه أن هذه التصرفات وذلك الحقد الإقصائي ناتج بلا شك عن جهل مركب لدى أولئك الذين يمارسونه دون وعي ، نعم إنه الجهل بمصالح الوطن ومصالح المجتمع ، الجهل بأهمية احتضان الكوادر المميزة والفاعلة تحت ذرائع وحجج واهية تستخدم لتمرير تلك القرارات المؤذية في حق العقول والأفكار النيرة لا لشيء إلا لممارسة ثقافة الإقصاء حسداً من عند أنفسهم ، كما أن اختلاط الموهبة الإبداعية بالشخصنة أضحت عقدة عقيمة أدخلت الكثير في دوامتها المحيرة.
إننا ونحن نشاهد ونلمس مثل هذه التصرفات في عالمنا العربي ونرى في العوالم المتقدمة نقيض ذلك من الدعم والاعتراف بالمبدعين وإتاحة الفرص الكبيرة أمامهم لنحزن لما آلت إليه الأمور، مما له أسوأ الأثر على مستوى النهضة والحضارة التي ترومها المنطقة العربية والعالم الثالث التي لن تبلغها ولن نبلغها ما دامت تقافة الإقصاء ومحاربة المبدعين قائمة بيننا، وعندما يعلم أصحاب القرار بهذه الآفة الخطيرة ولا يحركون ساكناً ولا يتبنون سياسة العدل والتشجيع للعقول الفاعلة والمبتكرة ، فإن تلك العقول الناضجة والأيدي العاملة ستتحول إلى مهاجرة تبحث عمن يحتضن عطاءها وابداعها ويفيد منها، لتشعر أنها قدمت رسالتها الحياتية وبناءها الإيجابي.
وحتى لا نجحف في حق الجميع فإن الأمر نسبي بطبيعة الحال ويوجد بيننا من يتبنى الأفكار النيرة ويدعم العقول المميزة ويتيح الفرص والمجالات أمام الشباب الصاعد ويستفيد من خبرات الجيل السابق والحالي ليشكل رابطة متماسكة بين الخبرة والحماس والابداع.
وإنما نتحدث عن ثقافة الإقصاء كظاهرة واضحة للعيان ليس في المجتمعات العربية فحسب ، بل في كل مجتمعات العالم ، إلا أن الحقيقة الواضحة أن نسبتها في عالمنا العربي تفوق بكثير مثيلاتها في بقية المجتمعات.
وإذ أردنا اللحاق بركب المجتمعات المتقدمة والمتطورة فعلينا أن ننزع ثقافة الإقصاء والإيذاء من مجتمعاتنا ونتيح الفرص العادلة وندعم ونشجع العقول الفاعلة .
لأن هناك حاجة ملحة لزرع ثقافة الاحتفاء والتقدير لرموزنا العلمية والأدبية والمهنية أيضاً ، حيث لا فائدة مما نراه من الاحتفاء والتقدير بعد الموت والرحيل من الحياة حين تسكب عبرات الفقد وعبارات المديح وتقام التماثيل للراحلين وتسطر أمجادهم وهم غائبون بعد أن عانوا من التجاهل الجائر والإقصاء الظالم طيلة حياتهم ومدة عطائهم، بل إن غرس وتمكين ثقافة الاعتراف بالآخر وابداعه وعطائه ولو لم نكن على وفاق تام معه في بعض ما يطرح لهي ثقافة شجاعة وعادلة تنم عن مجتمع قوي ومثقف وناضج .