نبض عسير 612 العِطر أُمي

بقلم / بندر بن عبدالله بن أحمد آل مفرح

لم يكن بعيدا عن الصواب ذلك العربي الذي أطلق في لحظة موفقة أيما توفيق مقولته العابرة للتاريخ حين قال :” لكل من اسمه نصيب” ولست أدري أي موضوعية أراها في هذه المقولة وأن أتأمل في اسم والدتي ” العطر” رحمها الله الذي كان موحيا بكل علامات ودلالات الجمال ،عبر تاريخ كنت أحد شهوده المقربين جدا،وليست شهادة ابنها أو أبنائها أو أقاربها،بل هي ولله الحمد شهادة من عرفها،وكفى بذلك صدقا وعدلا…
وكنت أتساءل عن ذلك الإلهام الذي دفع بجدي رحمه الله لأن يختار لها اسم ” العطر” وأنا أتأمل منذ صغري وإلى اليوم بل وإلى الغد سيرة حافلة لهذه المرأة المجاهدة عبر حياتها في معالي الأمور،الواقفة بجهدها ومالها وحسبها ونسبها في نصرة ومساعدة وقضاء حوائج من يلقاها من تعرف من المحتاجين والمحتاجات…
وإذا كانت “العطر” حفيدة”الأمير علي بن مجثل” بتاريخه المعروف،وذكره الذائع،ومواقف النخوة والرجولة والوفاء التي عرفت في تاريخه، وإذا كانت ” العطر” أيضا زوجة الوالد الراحل العزيز الشيخ عبدالله بن مفرح ،الذي كان واحدا من كبار الأسرة “المفرحية” الذين تشرفوا وما زالوا بأن يكونوا شيوخ شمل “قبائل بني مغيد وبني نمار”،حيث كانت الأسرة و بشهادة من عرفها عابقة بمواقف النبل والكرم ومساعدة المحتاجين،وكانت وما زالت بحمد الله وفية لولاة أمرها،متشرفة بدعمهم الدائم،وثنائهم عليها من خلال زيارات وشهادات ولاة أمر هذه البلاد من أسرة آل سعود حفظهم الله،وأمراء منطقة عسير السعودية ،وهو ما تعتز به الأسرة،وتضع تكريمها منهم تاجا يرثه الأبناء عن الآباء بكل اعتزاز وتقدير،وما موقف صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال أمير منطقة عسير في مرضها الأخير ،ومتابعته الدائمة لحالتها،وسؤاله للطاقم الطبي عن وضعها الصحي،ووصوله إلى منزل العزاء،وتقديمه واجب العزاء فيها رحمها الله إلا دلالة على الوفاء التي تعودناها من ولاة الأمر حفظهم الله،وممثليهم من أمراء منطقة عسير المتعاقبين…
لقد استثمرت الوالدة “العطر” اسما ورسما كل هذا الثراء الأسري والقبلي، ووجهته الوجهة التي أرادت به الأجر،حيث كانت ترنو لما عند الله والدار الآخرة،في خفاء وزكاء ،شاعرة بكل الرضا وهي تسهم باستمرار في أعمال الخير والبر،من خلال الصدقة المخفية،وما زلت أذكر تنبيهها الدائم لنا نحن أبناؤها وبناتها “بالسرية” التامة في كل معروف تقدمه،أو تنيبني أو تنيب أحد أخوتي أوإحدى أخواتي للقيام به؛حيث كانت تنظر بعين المحسنين الذين يريدون إخفاء ما يقدمون احتسابا للأجر،وحفظا لمشاعر من تقدم لهم أو لهن! ولم تكن تعلم –رحمها الله- وهي تأمرنا بذلك أنها تربي فينا بالعمل والقول معاني النبل والأدب والعطاء.، ولم يكن هذا العطاء عطاء ماديا فحسب ،بل كان عطاء معنويا لمن تلقاه،حيث السؤال والاهتمام والدعاء…
لم تكن “العطر” أما فحسب،بل كانت مدرسة في التربية،ومثالا في الكفاح،ونموذجا في رجاحة الرأي،وسداد المشورة. ولذا كنا نركن إلى رأيها ومشورتها فيما يتعلق بحياتنا الخاصة،وكم مرة كنت أنوي التراجع عن بعض الأمور ولكنها كانت دافعة لي في الاتجاه الذي يشير نحو المعالي والأجر،ولن أنسى موقفها حين رشحت لعمل تطوعي خيري،ونويت الاعتذار لكثرة الانشغال،وخوفي من ألا أؤدي العمل كما ينبغي! فكان توجيهها ألا أتأخر،وبأن الله سيعينني،وهو ماكان بالفعل؛حيث قبلت وكان القبول بداية لأعمال طيبة،وتكريم متواصل، وما عند الله خير وأبقى بحول الله وفضله،ولن أنسى موقفها التاريخي حين وفاة والدي رحمه الله حين قالت لي جملتها التي عددتها خريطة طريق نحو كل جميل ونبيل،إذ مثلت هذه الجملة رؤية المرأة العاقلة المصابة في زوجها، والصانعة لابنها،حين قالت :”كن مثل أبيك لعمك محمد كما كان أبوك،وكن مع آل مفرح مكان أبيك،ولا تغضب”
كانت ” العطر” أما وأبا بعد أن فجعنا بوفاة والدي رحمه الله،حيث قامت على التربية والتوجيه،برجاحة عقل،وسعة أفق،واستشراف مسدد موفق لمآلات الأمور ،وحيثياتها،وكنا نحن أبناؤها وبناتها نجد فيها الركن الركين،والرأي السديد لكل أمر يحتاج الرأي والمشورة،والإقدام أو الإحجام،وكانت دعواتها المباركة ظلا يشعرنا بالأمان والاستقرار…
ماذا أحدث عن ” العطر” الذي لون حياتنا بكل جميل؟وماذا أقول عن “العطر” التي فقدها مصلاها الندي؟ وسجادتها الباكية؟وماذا أقول عن العطر الذي فقده الأيتام والمساكين الذين كانوا يأتون إلى بابها، أو تذهب إليهم وكانت لا تتأخر عن بذل كل ما تستطيع لهم ولهن؟ حتى إننا اكتشفنا أن أغلى مقتنايتها قد أنفقته في حياتها في سبيل الله، حيث لم نجده ولكننا نثق أنها قد وجدته أمامها في طريقها الذي بدأته نحو الحياة الهانئة الخالدة عند أرحم الراحمين….
ماذا أقول عن قريباتها وجاراتها اللواتي فقدن منهلا عذبا من مناهل الطيبة وحسن الجوار،وسلامة الصدر،وحب الخير للآخرين ؟ ماذا أقول عن السباقة إلى تقديم الهدايا،ورائدة المباركات والتهنئات لكل إنجاز تعلم عنه في دائرة الأسرة القريبة أو الأسرة الممتدة في بيتي “آل مجثل وآل مفرح” بل والممتد إلى الأقارب والجيران والمعارف… وماذا أقول عن الغصة التي تركتها في أعماق قلوبنا،ونحن نودعها ونودع معها أجمل الذكريات،وأبهى الساعات؟
لم تتخرج ” العطر” من جامعة ،ولم تقرأ الكتب التربوية،ولم تطلع على كتب التاريخ وعلم النفس،لكني أشهد أنها كانت مدرسة في كل ذلك،وكنا لا نرتوي من أحاديثها وقصصها،ورؤاها حول كثير من الأمور السابقة والمستجدة،وكأنها كانت ترى بعين التوفيق التي يمنحها الله لمن يشاء من عباده…
ماذا أقول عن الصبر الذي قرأنا عنه نظريا،وسمعناه في كثير من المواعظ ، ولكننا رأيناه رأي العين في تاريخ “العطر” الصابر المحتسب في كل ما اعترض حياتها من منغصات وأحزان كثيرة،وكان استرجاعها،وحسن ظنها بربها ضوءا من الطمأنينة واليقين تضفيه على حياتنا،ولذا كانت حين تشعر بأي وجع من أوجاعها تتجه نحو غرفتها،دون أن تشعرنا بشيء صابرة محتسبة،باثة روح الأمل فينا بأن الأمراض اختبار،وأن الدنيا جميلة بأوجاعها ومسراتها…
ولأن نهايات “العطر” شذى روحاني غامر،ولحظات نورانية خالصة فقد كانت رحلتها الأخيرة في ليلة الجمعة الرمضانية المباركة،حيث ودعتنا في أشرف الزمان وأندى اللحظات بوجهها المشرق نورا وراحة،وطمأنينة،بعد حياة حافلة عامرة بكل الخيرات،وأحسب أن ذلك مما خفف مصابنا في فقدها،ولئن رحلت فإني أثق أن أبناءها وبناتها البارين بها سيواصلون طريقها في البذل والعطاء والنبل والوفاء، إذ إنني أثق أن شذى “العطر”سيبقى أثره في حياة أولادها “محمد وأحمد ونايف وسعيد وعبدالعزيز ومنى وحليمة ونجاة ونوف ودينا”،وسيكون برهم الجميل بها في حياتها ممتدا لبعد وفاتها…
وختاما : جزى الله خيرا كل من واسنا في فقدها من أصحاب السمو الملكي الأمراء وأصحاب المعالي والفضيلة، ومن كل الإخوة والأخوات الذين غمرونا بفيض دعائهم،وأسعدونا بجميل ذكرها، وذكرياتها مع كثير منهم ومنهن،وأسأل الله تعالى أن يرحمها رحمة الأبرار،وأن يسكنها فسيح الجنان،وأن يجعل ما قدمته في ميزان حسناتها،والحمد لله الذي قدر وهدى،وأحيا وأمات….

شاهد أيضاً

إن خانتك قواك ما خانك ربك ولا خانك ظناك

بقلم: ابراهيم العسكري تعرضت قبل فترة لعارض صحي اعياني من الحركة وارقني من النوم واثقل …

2 تعليقات

  1. غفر الله لها وأسكنها فسيح جنته

  2. محمد الجديعي

    أسأل الله في هذا اليوم المبارك ان يرحم والدتكم ويغفر لها ، وان تكون الفردوس دارها وقرارها ، لقد عطرت يومي بقراءة مقال عن والدتكم ( العطر) ..
    لله درك يا شيخ بندر .. مقال جميل عن والدتكم .. التي أسأل الله سبحانه ان يجمعك بها بعد عمر طويل في دار كرامته ..

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com