دارة الملك عبدالعزيز ومشروع تسجيل التاريخ المحلي للمناطق

بدأت الدارة مشكورة بالخروج مؤخرا عن دائرة تجميع تاريخ وذكريات ومتعلقات الملك عبدالعزيز المؤسس، لتتجه إلى محاولات تجميع التاريخ السردي لجميع مناطق المملكة، بشهادات مصورة من ألسن من لديهم القدرة على السرد التاريخي، للعهود القديمة التي تجاوزها الجمع التوثيقي المنتظم.

ولحسن حظي فقد كنت أحد من طُلب منهم تسجيل ذكرياتهم عن مدينة أبها في عهدها القديم، نزولا عند ذاكرتي الولهى بثرى هذه الأرض، ولحقيقة ما سبق وكتبته من كتب، وقصص قصيرة ومقالات، ومشاركاتي بندوات، وما نظمت من نشائد شعبية باللهجة الجنوبية القديمة، ومتفاعلا مع ما تعلقت به طفولتي الغضة، الذي أصبح جزءا من تاريخ أبها الحاكي.

لقاء مطول أمام عدسات الدارة، في جمعية الثقافة والفنون بأبها، وفي حضور القائمين على المشروع من جامعة الملك خالد بأبها الدكاترة علي قطب، وفاطمة أبو ملحة، وهند خلوفة، ومسؤولي الدارة عبدالله الحواشي، ومحمد العنزي.

لقاء لم أكن أتصور أن يعصر مشاعري، ويعيدني لعمر الطفولة البريئة، فأجدني أحكي بعين سارحة وهيام عن تلك الحياة الحميمية الأسرية والاجتماعية في أبها القديمة، وليس فقط من مشاهداتي، ولكن مما سمعته من كبار المجتمع، وخصوصا عن سيرة والدي رحمه الله الفارس شاهر النهاري، ومسؤولياته في تلك الفترة حين كان يعمل في إمارة أبها وكيلا ومعرفا بكل من يلفي على مدينة أبها من قبيلة قحطان، وعن أدواره في السلم والحرب، حتى ووفاته رحمه الله في “حرب القهر” قبل ولادتي بشهرين.

انبثق الحكي من خلال ذاتي، ثم تحركت الصور بانورامية من جوف منزل أسرتي في حي البديع، وتجولت في كل غرفة، أتذكر رائحتها وخصوصيتها، وعلاقة كل فرد من الأسرة بها، خصوصا والدتي رحمها الله التي أصبحت لنا الأم والأب في حين.

شرحت عما كانت تحتويه زوايا البيت من أثاث وجدران ونوافذ، و”دبب” ومتعلقات، وخارجه من ركف وكتر وسرب وصوامع.

وأعتليت بأقدام الطفولة فوق “السك” وبلغت الأدوار العليا بين الجس والقط وخضرة الأدراج، فدور يختص بالضيوف، ودور لنا نحن أهل البيت، وسطح محروس بالصوامع يحتوي على أعواد نحل، وحوش صغير يظل نشطا بالضيوف طوال أيام الأسبوع وخصوصا يوم سوق الثلاثاء، حين يقدم العشرات من معارفنا من القرى والبلدات القريبة والبعيدة للتسوق، فكنت أصور هيئاتهم وملابسهم، وما كانوا يمتطون من جمال وحمير وخيول.

جولة سردية بانورامية، جعلتني أتجول بين بيوت الجيرة الجميلة، والأحياء البعيدة، بأهاليها وعلاقاتهم وجمال أنفسهم، وقربهم، وعاداتهم وتقاليدهم ومشاركاتهم ومجاملاتهم في مختلف أنواع المناسبات، بفنون شعبية وتعاملات محبة تعتبر ميزة لهذه المدينة الخضراء البيضاء، ولم أنس أن أذكر التنوع الاجتماعي بمن هم أصلا من أهل أبها الاقدمين، ومن حضروا من مختلف مناطق المملكة في تنقلات بشرية قديمة، ونتاج حملات توحيد المملكة السعودية، ممن كانوا يطلون على روح أبها، ثم يلتصقون بها، ويصبحون جزءا منها لا يتجزأ حتى يومنا.

تكلمت عن الرفصة وهي الطريق إلى الوادي بما فيه من نسائم وطبيعة بكر، وأعشاب ونباتات، وغدران، ومخلوقات تجول هنا وهناك، وطير يسكن الأغصان ورؤوس الجبال، وماشية ترعى، وأشجار تحمل نعم الله من الفواكه والنباتات، وحكايات كان “عوال” الأحياء المختلفة يصنعونها أو أنها هي من صنعت دواخلنا.

الأبنية كان لي توقفات عديدة معها، فأبها المنازل البيضاء الطينية أو الحجرية بيوتها، ونوافذها الملونة، وتنوع الخدمات البسيطة في أحيائها قبل الكهرباء وقبل الأسفلت، وقبل أن تصبح السيارات طاغية في المكان، وحديث عن السقاء، والمستقية، وعن العسة، وعن المنوه، والشيخ المداوي بالكي، وعن الظلمة وكيف كان (أبو الأتاريك) يوزعها على نواصي الشوارع والحارات لتضيء للناس ليلهم وسمراتهم.

كيفية التداوي ومواجهة الأوبئة، وبدء عمل أول “صحية” بالمنطقة.

دراسة الأطفال في الكُتاب، والتحول إلى مدارس للأولاد، قبل أن يقتنع الأهالي بتفهم مدارس البنات.

البسطة التي كانت تجمع النساء صباحا وسط الحي، يحملون معهم ما خف وطاب من الطعام والشراب، والسوالف الصباحية القريبة الحبيبة.

الأمكنة المرعبة للطفولة، بما يشيع عنها من حكايات تزيدها رعبا مثل السدة المظلمة، وسجينها، الذي يصرخ ليلا من ألمه وقيوده الخيالية.

الألعاب والأنشطة المختلفة من “عجب وقزميات” ومسابقات للصغار والشباب.

الجيرة المتكاتفة في كل الظروف ومساعدة الجار والوقوف معه عند استقبال ضيوفه أو حين حصول العزاء، كما المشاركة في شراء جزء من عجل يتم ذبحه في مناسبة معينة.

مجالس المنازل وكيف كانت تحمل اعدادا كبيرة من الضيوف دون تكلف ولاشعور بضيق، وكيف كان الكبير أبا للجميع، والكبيرة أم للجميع.

استعانة ربة البيت بالجارة وهذا (مسمى لطيف للخادمة) لمساعدتها في نظافة البيت والاهتمام بحاجات الضيوف والاستعداد للمواسم والأعياد.

جني محصول العسل في سطح بيتنا بواسطة نحال، وقسمته.

حليب البقرة “ملحة” المباركة، التي كنا نأخذها للرعي في الوادي نهارا، ونعيدها مساء لتهب أهل البيت وأقرب أهل الحي اللبن والزبد.

وجود المزارع الخضراء في محيط أبها تتجمع فيها مجاميع الرجال، أو النساء للتمتع بالهدوء ومياه الآبار والفواكه والأنشطة المجتمعية.

معالم كثيرة لم تعد موجودة اليوم، ولكني أحييت وجودها في حديثي، فدرت حول القشلة العثمانية، وقصر شدا، وقشلة شمسان، وجبل ذرة، والمدفع التركي، الذي كان يجمعنا بوقت الإفطار في رمضان، ويفرحنا بدخول الأعياد.

ملابس الرجال، وأزياء النساء، على اختلافاتها وفنون تطريزها، يرتدونها في الحل والترحال، وفي مختلف المناسبات والظروف.

وقد عرجت على “الحنادي” والأساطير، التي كانت تحكى في حينه، وزعمت أنها جزء من التراث العالمي المتناقل، يتم سرده بصيغة أبهاوية.

ولم أبخل بسرد حكاياتي مع جدي سعيد بن مريع بن عباس شيخ قرية الشينة، ووصفت عاداتهم وتقاليدهم، وصعوبة الطريق إليهم، وما كنت ألمسه من فروق بينها وبين مدينة أبها.

مشاهدتي الطفولية لضربة الطائرات في أبها أثناء حرب اليمن، وكيف كانت تحدث السرقات، ومكان توقيع القصاص، وشخصية “المنوه” يشيع الأخبار في السوق، وتجمع الأطفال للعب حول كل جديد ومختلف من الناس كالأعمى، والأعرج، والمختل، وأهازيجهم المنغمة في كل تلك الأحوال.

حكايات هيجتني، وسالت محبة من كل جانب حولي، وكنت أظنها لا تتوقف، لولا أن بطاريات العدسة لا بد لها أن تنتهي، ولكني لا أنكر أني شعرت بكوني بطلا في فيلم تاريخي تعود به اللقطات لينابيع الذاكرة القديمة، بكل بهجتها ودموعها وصورها ودقائقها، وحكايات من العبق، لا تحتاج إلا لعين عدسة درامية، تعرف كيف تسمع وتستوعب السرد، وكيف تنفذه بشفافية يقصد بها استعادة التاريخ بكل أحواله، وبما يجعله صورة من الخلود لا تعود تتزعزع من أعين ناشئة المستقبل.

أشكر الدارة على جهودها المباركة، وأتمنى لها بلوغ الحلم بتثبيت سائر حقائق التاريخ الإنساني لمناطق السعودية، لأنه يمثل أحجار أساس وجودنا.

 

د. شاهر النهاري

شاهد أيضاً

الكاتبة ” سرَّاء آل رويجح ” في حوار خاص لـ” عسير ” : الجمر أيقونة ألم … والرقص أيقونة نجاح

صحيفة عسير – لقاء خاص : تمتلك الكاتبة سرَّاء عبدالوهاب فايز آل رويجح ، قدرات …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com