بقلم الأستاذة / صالحة القحطاني
عن سهل بن سعد رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين،وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما) رواه البخاري.
اعتنى الإسلام باليتيم عناية خاصه،فاليتيم هو كل من فقد أحد والديه أو كلاهما، فهو يحتاج إلى الرعاية والإهتمام والعناية الجيدة بسبب الحرمان الذي يعاني منه، ويُعتبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أبو الأيتام فقد نشأ يتيم الأب والأم في البداية،حيث توفي والده قبل ولادته عليه الصلاة والسلام، ثم تُوفيت بعد ذلك والدته فأصبح عليه الصلاة والسلام يتيم الأب والأم، وهذا تشريف لكل يتيم، حمى الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويسّر له من يكفُلُه ويعتني به ويحميه، وأرشده إلى طريق الحق والهداية بعد أن كان ضالاً من غير هدى، قال تعالى:(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى • وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى •وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى• فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ• وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ• وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).
وفي اليوم العالمي لليتيم كانت هذه السطور وشرفٌ لأن أكتب عن اليتيم الذي فقد والديه ، والأيتام ذوي الظروف الخاصة ونشأتهم في الميتم ومايتخلّلها من حياة ضائعة، وطفولةً مندثرة، وأمنياتٌ محطّمة، ومشاعر تموت ببطئ، وتضاريس مغمورة بالصمت، وهدوء ينساب كالشَجَن، بين مِطرقة الُيتم وسِندان الفقد.ما أصعب أن يواجه اليتيم العالم بمفرده فقلبه يدومُ بهِ فراغ إلى الأبد،مؤلم أن يكبُر وينشأ بعد رحيل الأب والأم أو غيابهما تماماً، أنه يجعل قلب اليتيم مجوّف وفارغ مهما امتلأ بالجميع، فقد ذاق الفقد في أحب الخلق لروحه وتهاوى وحيداً، فلا حُضن سيتّسع له سوى حُضن السرير البارد، وحين يمرض لايُشفى بالدواء سريعاً، بل ليدٍ تمتد وتُزيل التعب عن جبينه، ولشخص يمسح فوق رأسه ويهتم لأمره، ويسأله: هل أنت بخير ؟ كيف يمرّ وقتك ؟ ولكلمات تُشعره بالدفء ويسأله عن موضع الألم ويحاول مساعدته كضِمادٍ بارد، ويداً تُربت على كتفه، وحُضن يأوي تشرّده، وصوت يعوّض تلعثمه، وذارع يحتويه.
قديماً قيل “فاقد الشيء لايُعطيه” كذبوا، بل أعطاه وقدّمه، سَلوا الأيتام عن الوجوه التي أحبوها فهم لن ينسوا ذلك، ولن ينسوا مشاعرهم التي عاشوها، ولا أحزانهم التي امتصوها على مضض، أسألهم سيقصّون عليك كل شيء بتفصيلٍ مُرعِب، فمن الصعب أن يَفهم شيئاً لايُرى فما بالك بالعالم كلّه الذي يعيش فيه !؟
الوطن أبداً لم يقصّر ولكن “من لاتحتويه الأحضان لن تحتويه الجدران” ماذنب يتيم وُلِد دون أن يُبصر والديه؟ ماذنب يتيمٍ وجد نفسه في الميتم لا يعلم ماهي جنايته؟ ماذنب يتيم وُلد تحت ظروفٍ أفقدته دفء العائلة وحنان الأسرة؟ أتعلمون إحساسه ومايحمله في قلبه ؟أتقرأون نظراته التعيسة؟ أترون جسده وهو يرتدي ثياب هشّه لاتقيه حرارة الصيف وزمهرير الشتاء؟ أتشعرون بالحرب التي يخوضها كل يوم من أجل أن يعيش ؟ من يتكفّل بقلوبهم برسم ابتسامة صادقة على محيّاهم؟ من يُسدي لهم النُصح لتُنير بها عتمة دروبهم؟ من يأخذ بأيديهم ليكون لهم المربّي والمشفق الحاني ليمسح عن أعينهم دموع الأسى ويسمع صوت أفئدتهم ؟ من يرمم إنكسارهم ويشتري لهم لحظات الفرح ويَهَبَهم النور في عتمة أيامهم ويمنحهم الطمأنينة في غمرة مخاوفهم؟ كم من يتيم يبيت دون طعام وشراب يُمسي وهو يلتحِفُ الأرض ويفترشُ السماء برداً فوق البرد وسَقماً فوق سقم؟ كم من يتيم يبكي الآه ولم يجد من يحتوي معاناته ويُرجِع له الحق المسلوب إرادته؟ كم من يتيم انحرف عن طريق الحق والصواب، بسبب تصرّفاتٍ غير مسؤولة من بعض أفراد مجتمعه؟ كم من يتيم يبكي الدم تحسّراً على أحلام ضاعت وسُحِقتَ براءتها قبل أوانها، وسُلِبت منه روح حياته، وزهرة شبابه، وربيع أيامه، وماتت ولم يضل سوى تلك الروح بين أضلعه تنبُضُ بالألم وتنزِفُ الوجع ..
فالأيتام ليسوا بحاجة لنظرة شفقة تُثير بها أوجاعهم، بل لقلب صادق يحتويهم، وروحاً بيضاء تطوّقهم، ويداً تُغيثُ وتَهبْ، وأُذن تُصغي له السمع، وفمٌ يُغنّي له أُنشودة الأمل، كذلك هم ليسوا بحاجة إلى المأكل والمشرب فقط بل إلى تعليمٍ ينهض بهم وتوجيهٍ صادق يُهذّب مسارهم وتحفيزٍ يُقوّي قدراتهم في اكتساب المهارات وحِرفاً يستغنون بها بعد الله عن الناس، يحتاجون لمن يرسمُ الإبتسامة في قلوبهم قبل شفاههم حين تسرقها الحياة منهم،ولأيدي تُشعرهم بالأمان، وحضناً حنوناً يُلملِم أحزانهم، ولمن يتبنّاهم ولو بالأقلام، إن قمة الإنسانية وأروع العطاء حين يتحوّل قلبك إلى معطفاً دافئً ليتيم.
ويستشعر بأنّاتهم تهزُّ الوجدان ويرى في عيونهم لمعة حزينه، ونداءاتٌ خافته، وصرخاتٌ حارقه، وآهات مقهورة، ويقاسمهم ضَنَكْ العيش والجراحات الصغيرة التي تُتلِف أجسادهم، فهذا الحزن كثيرٌ على قلوبهم الصغيرة التي سابقت سنوات أعمارهم بكثير، فتركوا ألعابهم منذُ الصِغر وابتلعوا مفاجاءات القدر في صمتٍ يُفني أرواحهم فهم صِغارٌ على الجرح مهما كبروا.