بقلم الأستاذ/ محمد فايع
من الطبيعي أن يكون هناك ثمة فوارق بين رمضان الأمس واليوم ،نظرا للمتغيرات والتحولات التي تجري على حياة المجتمعات في كل مكان ،ولهذا دائما ما نعيد السؤال مع أنفسنا كلما أحسسنا بأن طعم(رمضان الأمس)يختلف عن طعم رمضان اليوم، فرمضان الامس له مذاق خاص ونكهة غير كما يقال،رغم بساطة الحياة آنذاك ،وهذا الرأي ليس فيه نظرة تشاؤمية بقدر ماهو تشخيص دقيق لواقع.
وفي كل رمضان يحضر ،أجدني مع قصص كثيرة وحكايات، تستثيرني من مكامنها وتعيدني إلى تذكر أجواء رمضانات الأمس ،التي أجد سُرى طيفها يعانقني اشتياقا.
رغم حالة الحزن التي تتلبسني كلما تفحصت وجوه من حولي،فأجد وجوها قد غابت كانت تصوم معنا .
لكن دعوني اتوقف مع بعض الحكايات الرمضانية التي عاشها كثيرون قبلنا ونفتقدها ليتعرف عليها أجيال اليوم فهم لايعرفون كيف كانت رمضانات الأمس.
فقد كان الناس عندنا في(منطقة عسير) يحتفلون برمضان قبيل حلوله بأيام،إذ كانت النساء يبدأن بتزيين البيوت ابتهاجًا باستقباله ،فيعدن صبغ جدرانها وتجديد الوانها بما كان يسمى(بالصهار والخضاب)قبل مجيىء (الدهانات)وفي الليلة الاولى منه كانت رائحة( البخور والعودة )تنبعث من كل بيت ،ثم يبدأ الناس في الليالي الاولى من رمضان بالزيارات لبعضهم بعضا وتبادل التهنئة لقدومه،وكان الناس قبل حلوله بأيام يجتهدون في(تزويد بيوتهم)بالمواد الغذائية التي تصنع منها أكلات رمضان خاصة(دقيق البر)الذي تصنع منه (السبموسة واللقيمات،وخبز البروالسويقة والمسيّلة) التي لاتغيب عن السفرة العسيرية إلى جانب(خبز الذرة والشعير)فقد كانوا يرتادون الأسواق الشعبية (كسوق الثلاثاء بأبها وسوق الخميس بالخميس وأسواق القرى المحاورة لها كسوق الأحد بأحد رفيدة،واثنين بن حموض بالشعف،وسبت بني رزام والحبيل وغيرها)فقد كانت المكان المفضل للشراء،و وللتسلية وقضاء الأوقات فيها إلى أن تحين ساعة الإفطار.
أما حكاية(مدفع رمضان)ومايثار حوله،فكلنا نعرف إن المصريين أول من ارتبطوا به واستخدموه للإعلان عن(ساعة الإفطار)وفي هذا قصة طريفة جرت في عهد (الخديوي إسماعيل)وكان يطلق عند السحور،ونقلوا هذه العادة لعدة دول عربية،وبعضهم يرجع بداياته إلى عام( 859 هجرية)وبعضهم يرجعه إلى ما بعد ذلك بعشرات السنين،إلى عهد(محمد علي)الكبير،فمن الروايات الشهيرة أن والي مصر(محمد علي)اشترى عددًا كبيرًا من المدافع الحربية في إطار خطته لبناء جيش مصري قوي، وفي أحد أيام رمضان ،كانت تجري الاستعدادات لإطلاق تجريبي،فانطلق صوت المدفع مدويًا في نفس لحظة غروب الشمس وأذان المغرب من فوق القلعة الكائنة حاليًا في نفس مكانها في حي مصر القديمة جنوب القاهرة(قلعة محمد علي)فظن الصائمون أن هذا تقليد جديد،واعتادوا عليه،وسألوا الحاكم أن يستمر هذا التقليد خلال شهر رمضان في وقت الإفطار والسحور فوافق، وتحول إطلاق المدفع بالذخيرة الحية مرتين يوميًا إلى ظاهرة رمضانية مرتبطة بالمصريين،ولم تتوقف إلا خلال فترات الحروب العالمية.
وفي(منطقة عسير)ذكرلي كبار السن في(أبها) و(خميس مشيط،)أنهم كانوا يفطرون على أصوات (مدافع رمضان)التي كان يرافق إطلاقها أصوات المؤذنين،ففي أبها كونها حاضرة عسيركان(مؤذن الجامع الكبير)الواقع في(رأس إملّح)يرفع(قطعة من القماش الأحمر)ليراها المسؤول عن إطلاق قذيفة المدفع فيقوم بإطلاق القذيفة ليسمعها كل من يصل إليه صوت المدفع ثم اصبحت(اللمبة الحمراء)بدلا عن القماش بعيد دخول الكهرباء إلى أبها وماجاورها،وكانت مدافع رمضان تنصب في الجبال العالية على قمة(جبل شمسان)وكانت به قلعة تحمل اسمه،وفي أعلى(جبل ذرة)المعروف بالجبل الأخضر،اليوم في ظل انشغال الناس وطغيان وسائل التواصل الاجتماعي على حياتهم(اختفى المدفع)أو توارى عن الأنظار،وإن كان موجودا فمن سيسمعه.
إلا أنه سيظل في ذاكرة من عاش هاتيك الأيام ولم يغادرها،عند من لايزال الشوق لتلك الصور
والملامح لرمضان الأمس يشدهم لتذكر أيام خلت عاشوها كانت تتسم بالجمال والبساطة،يتمنون لوعادت ليعيشوها ولكن هيهات،فكما قال محمود غنيم(وهيهات هذا العهد يرجع ثانيا)تقبل الله صيامكم وقيامكم..