بين يدي مقال “سيادة الخدمة” لسمو الأمير تركي بن طلال

بقلم: د. سعيد بن عبدالله بن علي جفشر

حين قرأت ما كتبه صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز – حفظه الله – المعنون بـ “سيادة الخدمة”، وجدت نفسي أقف طويلًا أمام كل كلمة، بل أمام كل حرف. لم يكن مقالًا عابرًا يُقرأ، بل كان منهج فكر، وخارطة قيم، ومرايا أخلاق، تنبع من قلبٍ صادق، وتجربة قيادية متجذّرة في عمق الوطن، وممتدة إلى نبض المواطن.

 

لقد ترددت كثيرًا قبل أن أكتب هذا التعليق، لا تردد الحيرة، بل تردد الهيبة والإجلال، لما في كلمات سموه من عظمة المسؤولية، ونقاء القصد، وصدق النيّة. كلماتٌ شعرت بها قبل أن أقرأها، وسكنت الروح قبل أن تلامس العين. لقد عبّر سموه بصدق القائد، وبصيرة الحاكم ونُبله، عن رؤية متكاملة لمعنى القيادة الحقيقية، وبيّن بما لا يدع مجالًا للشك أن “السيادة الحقيقية لا تُمنح، بل تُكتسب بالخدمة، وبالقيام على حاجات الناس.”

 

وفي كل سطر من مقاله، كان الأمير تركي بن طلال يُترجم بأمانة ووضوح رؤية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد – حفظه الله –، الذي أطلق مشاريع استراتيجية منطقة عسير تحت عنوان “قمم وشيم”، ليجعل منها “شيماً وقممًا”، لا بالتنمية المادية فقط، بل بتكريس العدالة، والرحمة، والكرامة الإنسانية، وهو ما يسعى سموه لتجسيده واقعًا يوميًا في المنطقة التي أُنيط به إمارتها.

 

لقد كان آل سعود – منذ ثلاثة قرون من تأسيس دولتهم المباركة عام 1139هـ (1727م) – حُماةً للدين، ووُحدةً للقلوب، وسَنَدًا للمواطن، يرفقون به، ويُصغون لاحتياجاته، ويسعون لرفعته وسعادته. لم يوحّدونا بالسيف، بل بالمحبة. لم يغلبونا، بل احتوونا، وأدركوا عبر تاريخهم الطويل، الذي يمتد لأكثر من ستة قرون منذ تأسيس إمارة الدرعية، أن الملك والإمارة تكليف لا تشريف، وأن الإمامة رعاية لا تسلّط.

 

وأيّ شرف أعظم من أن نُختص في هذه الجزيرة الطاهرة بأن نحيا تحت ظلّ هذه الأسرة الكريمة، التي قدّمت خدمة الحرمين على كل المناصب، وجعلت “خادم الحرمين” تاجًا تتفاخر به على رؤوس العالمين.

 

وفي خضمّ هذا النور القيادي، أستحضر حديثًا ترويه كتب الأدب، عن يحيى بن أكثم، حين بات ليلةً عند الخليفة المأمون، فاستيقظ عطشانًا. فقام المأمون بنفسه، وأتاه بكوز من ماء، فتعجب يحيى، وقال: “يا أمير المؤمنين، ألا دعوتَ بخادم؟” فردّ عليه المأمون قائلاً: “حدّثني أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: سيد القوم خادمهم.”

وإن كان الحديث فيه ضعفٌ من حيث الإسناد، إلا أن الحياة ومجرياتها وواقعها أوضحت أن من يسود قومه لا يسودهم إلا بخدمتهم، وتواضعه لهم، وتقدّمه في الألم قبل الفرح.

لقد شرّفني الله – شخصيًا – بحضور مجالس آل سعود، والسلام على ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله –، كما تشرفت بحضور مجالس سمو الأمير تركي بن طلال، ورأيتُ بأمّ عيني مجالس حُكمٍ رشيد، وعدلٍ كريم، ورحمةٍ مُلهمة. رأيتُ كيف يكون المسؤول معينًا وسندًا لا متسيّدًا، واقفًا خلف كل أمرٍ يُسهّل أمور المواطن، ويُزيل همومه، رافعًا له لا متعاليًا عليه.

وكانت مواقف سموه في منع الكراسي المذهبة، ووقوفه احترامًا لكل زائر، ومنعه لأي مظهر من مظاهر التمييز في المجالس الرسمية، رسالة عملية ترجم فيها معنى “سيادة الخدمة”، لا شعارًا، بل سلوكًا يوميًا.

سموه – حفظه الله – لا يذكر عسير كموقع جغرافي، بل ينطقها كأمانة، ويتعامل مع كل قضية فيها وكأنها شأن وطني من الدرجة الأولى، مؤمنًا أن الكرامة الإنسانية تبدأ من الإحساس، وتُبنى بالصدق والإنصاف، وتُكلّل بالتواضع.

نعم، إن الأمير تركي بن طلال، في كل ما يكتب ويفعل، يُذكّرنا أن القيم ليست نصوصًا تُحفظ، بل مواقف تُعاش. وأن “الخدمة ليست رتبة، بل رسالة”. وأن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يُقدّم.

وها هو، كما رأيناه جميعًا، أميرًا في الهيبة، وأبًا، وأخًا، ومعينًا في الجوهر. جمع بين الحزم والرقة، والعدل والرحمة، والتخطيط والتنفيذ. وكل ذلك بروحٍ وطنية، تقدِّم للناس لا تتقدَّم عليهم.

له منا خالص الدعاء، وأصدق الوفاء، وأعمق الاحترام.

وستبقى “سيادة الخدمة” عنوانًا يُخطّ بماء العين، لا بمداد القلم.

شاهد أيضاً

نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يتطوع ليكون مسؤول المالية

بقلم الكاتب/ عوض بن صليم القحطاني أشار القرآن الحكيم إلى نماذج من تطوع نبي الله …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com