سلوكيات تُخلّ بالمجتمع وتُضعف تماسكه (التأثير السلبي على السلم المجتمعي)

بقلم: د. سعيد بن عبدالله بن علي جفشر

خلال الأشهر الماضية، وردتني عدة اتصالات، وشاركت في عدد من المجالس الاجتماعية، دارت فيها نقاشات متكررة حول قضية لافتة، أخذت في التوسع والظهور حتى أصبحت محل استغراب وتساؤل بين أفراد المجتمع، ما دفعني إلى تناولها بالكتابة هو الشعور بالمسؤولية، ومن واقع الخوف على نسيجنا الاجتماعي، وقيمنا الدينية، وهويتنا الوطنية.

أتحدث عن ظاهرة بدأت تأخذ طابعًا اجتماعيًا مقلقًا، وتكاد تُنذر بتحولها إلى مشكلة متنامية إن لم تتم مواجهتها بتوعية وشفافية، وبتشريعات تضبط هذا الخلل المتسارع. ظاهرة تحريف الأنساب أو الانتساب إلى غير الأب أو استبدال الهوية الأسرية لأسباب شخصية أو مصلحية، سواء عبر تغيير الاسم في الوثائق الرسمية، أو عبر التسميات الموسمية التي يُعرف بها الشخص باسم لأسرته في فصل الشتاء وآخر في فصل الصيف!!!.

أمام هذه الظاهرة يبدو أنه أصبح من اللازم أن يُبيَّن بوضوح عند تعديل الأسماء في الهوية الوطنية أن يكون الاسم الحقيقي السابق موضحا بها والاسم الذي أختير بديلا له، مع إيضاح تسبيب هذا التغيير هل ذلك تم بناءً على رغبة شخصية، أو قرار إداري، أو حكم قضائي أو فتوى شرعية، فهذه التعديلات تمس بنية المجتمع وذاكرته، ولابد أن تكون واضحه دون أخفاء أو تدليس لأنها امس الكثير من الحقوق المتصلة بالإرث والهوية والانتماء، ويجب أن تُدار بشفافية وصدق.

إن النسب في الإسلام ليس شأنًا عابرًا، بل هو أمانة دينية وأخلاقية، وقد جاء التحذير الإلهي صريحًا في كتاب الله الكريم ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ (الأحزاب: 5)، فدعوة الإنسان إلى غير أبيه يعد جورًا وظلمًا، بينما الحق والعدل في أن يُنسب المرء إلى أبيه الذي جاء منه صلبًا، لا إلى من اختاره هوىً أو طمعًا.

وقد بيّن النبي ﷺ خطورة هذا الفعل في أحاديث كثيرة، فقال: “من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم، فالجنة عليه حرام”، وقال أيضًا: “من ادعى قومًا ليس له فيهم نسب، فليتبوأ مقعده من النار”، وفي رواية: “من رغب عن أبيه فهو كفر”، وقال ﷺ كذلك: “ليس من رجل ادعى لغير أبيه – وهو يعلمه – إلا كفر بالله، ومن ادعى ما ليس له، فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار”، وهذا التحذير لا يترك مجالًا للّبس أو المجاملة، بل يضع من ينتسب إلى غير أبيه – عن علم وتعمد – في موضع الإثم العظيم الذي قد يصل إلى الكفر العملي، لما فيه من افتراء وكذب ومساس بأقدس روابط البشر: رابطة النسب.

إن من ينتسب إلى غير أبيه، أو يتسمى بغير نسبه، يرتكب محرمًا بيِّنًا في الإسلام، بل من الكبائر التي توعد النبي ﷺ صاحبها بلعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، قال رسول الله ﷺ: “من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم، فالجنة عليه حرام”، ومتى عُرف أن الإنسان يعلم يقينًا أنه ليس من القوم الذين ينتسب إليهم، ثم أصرّ على نسبٍ لا يملكه، فقد ولج في دائرة الإثم العظيم.

ولعل أخطر تجليات هذه الظاهرة اليوم هي محاولات البعض الانتساب إلى غير آبائهم من جهة الصلب، والتسمي بأسماء الأخوال من جهة الأم، متذرعين بانقطاع الذكور لدى أخوالهم، أو رغبة في استثمار إرث مادي أو معنوي لم يكن لهم، وهذا المسار الخطير لا يقتصر على تحريف الاسم والنسب، بل يتجاوزه إلى التحايل المنهجي على الإرث العقاري الثابت، واستغلال الصكوك والنظام والعلاقات لأخذ حقوق ليست لهم، مستندين في ذلك إلى شهادة الزور، والتدليس، والتواطؤ مع منتفعين مثلهم.

وفي سبيل تحقيق هذه المكاسب المادية، تُنسج روايات وهمية، وتُختلق روابط نسب لا أصل لها، وتُرسم مشاهد زائفة لإقناع الجهات الرسمية أو الاجتماعية بأنهم الورثة الشرعيون، وأن ما يطالبون به إنما هو “حقهم”، لكن الحقيقة الجلية أن هذا كله لا يعدو كونه مؤامرة محبوكة بين من يعلم الحقيقة لكنه يكذب، وبين من يطمع بالمكسب السريع حتى لو على حساب الكرامة والدين والعدل.

ثم ما تلبث هذه الظاهرة أن تتسع فتشمل جوانب أشد خطورة، مثل الادعاء بمآثر تاريخية ليست لهم، وسرقة أمجاد أسر عريقة، وتحريف الوثائق، بل وربما تزويرها بالكامل، فيُعاد سرد البطولات، وتُنسب القصص والأمجاد إلى غير أصحابها، بل وتُبنى شجرة نسب على وهم، ثم تُنشر في كتب موضوعوه أو وثائق مصنوعه وفي المجالس والمنصات الإعلامية غير الموثوقة ومن يدّعي الإعلام وصناعته وهو دخيل عليه كحقائق دامغة، بينما الحقيقة محفوظة في صدور أهلها، ومسطرة في وثائق أصلية لا تقبل التشكيك.

إن الانجذاب إلى تشابه الأسماء أو التقارب الجغرافي ومحاولة تحويله إلى علاقة نسب لا يعدو كونه وهمًا يسوق صاحبه إلى الزيف، ويجعل منه راكبًا لجرف هارٍ ما يلبث أن ينهار به ومعه كل ما بنى من كذب وتدليس، والمؤسف أن من يفعل ذلك لا يُدرك أنه لا يرفع مكانة أسرته، بل يُسقطها في أعين العقلاء، ويجعلها عرضة للشك والسخرية.

ومن المضحكات المبكيات نسبة آثار أو منازل لأسر اندثرت إلى أسرته، ظنًّا أنها حيل تنطلي أو أكاذيب تُصدّق، أو أن يبني نسبه على مجاورته في البقعة الجغرافية لقبيلة أو لأسرة، ويبلغ التحريف مبلغًا أقبح حين يُلغي المرء نسبه من جهة أبيه الذي أتى من صلبه، ويختار بدلًا منه نسب أخواله فقط لأنه يرى فيهم مكاسب مادية أو مكانة اجتماعية مدفوعة بإعجاب أو شعور بالنقص، فيسعى إلى طمس جذوره الحقيقية، والتخلص من هويته الفطرية التي أرادها الله له، كل ذلك لأجل عقار أو إرث أو حفاوة مؤقتة، هذا الفعل لا يخرج عن كونه خيانة مزدوجة: خيانة لوالده، وخيانة لأمانة النسب، وشتّان بين من يفخر بأصله ويُعلّي من شأنه بالصدق، ومن يبني مجده على الخداع والافتراء.

إن تحريف النسب ليس مسألة شخصية، ولا شأنًا خاصًّا، بل هو قضية أخلاقية ومجتمعية ودينية تمس الجميع، هو إساءة لتاريخ الأسر، وإفساد للوثائق، واستخفاف بجهود العلماء والمؤرخين، واستهزاء بضمير المجتمع الذي يعرف الحقيقة ويحتقر الزيف.

أن هذه الظاهرة لابد أن تتكاتف الجهود بالحزم ضدها، وألا يسكت عن المزورين، وألا يُعطوا مساحة للتزوير أن يترسخ، ولا للزيف أن يُفرض بالقوة أو بالمال أو بالمجاملة، إن المروءة أن يُنسب المرء إلى أبيه، وأن يعتز بمن أنجبه، وأن يبني مجده على العمل لا على السرقة.

إن من يُلغي نسبه الحقيقي ويتبنى نسبًا آخر طلبًا للمكاسب لا يرفع قدره، بل يضع نفسه في موضع الخيانة لوالده والتعدي على غيره، وقد يخدع الناس يومًا، لكنه لا يستطيع خداعهم دومًا، فذاكرة المجتمع لا تنسى، والتاريخ لا يرحم.

ومن هنا نؤكد أن تحريف النسب ليس شأنًا شخصيًا، بل هو قضية تمس السلم المجتمعي، وتؤثر على صحة الوثائق، وتفتح بابًا للظلم، وتزرع الشك والريبة، وتُمكّن للباطل أن يُفرض بجعل المختلق حقيقة، بالإعلام، أو بالمحسوبيات، أو المجاملة.

إن من واجب أهل العلم، والنسابين، والمؤرخين، وجميع أفراد المجتمع والجهات الرسمية أن يتصدوا لهذه الظاهرة بالحزم، صحيح أن هناك أنظمة حازمة سنتها دولتنا المباركة بقيادتها الرشيدة، ولكن نحن هنا نتحدث عن من يسعى إلى الاحتماء بهذه الأنظمة ليصل إلى أهداف غير صحيحة، مما يستلزم معه عمق البحث والتقصي عبر سن أنظمة واضحة تمنع تحريف الأنساب، وربط أي تغيير في النسب بحكم قضائي شرعي مُعلَن، ونشر التوعية في المدارس والجامعات والمنابر الإعلامية، وتشجيع الأسر على توثيق أنسابها بالطرق العلمية الشرعية، ومحاسبة من يتجرأ على تزوير الوثائق أو انتحال النسب.

 

وقد حذّر الله تعالى من هذا النوع من السلوك بقوله: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 42)، وقال أيضًا: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب: 58)، والافتراء في النسب، وشهادة الزور، وتزييف الوقائع، كلها من صور هذا البهتان الذي يحتمله المزور، ويقع به في الخسران.

 

وقد عبّر الشعر العربي في مواقف خالدة عن الشرف الذي يُمنح بصدق لا بالافتراء، ومن ذلك قول حسان بن ثابت، شاعر رسول الله ﷺ: “وشقّ له من اسمه ليُجلّه * فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ”، وفيه إشارة عظيمة إلى أن الشرف لا يُنتحل، بل يُمنح من الله، ولا يُصنع بالكذب، بل يُولد مع الصدق والنور.

 

وإنه لمن المؤسف حقًّا أن يقع بعض الناس في هذا الفخ، ويُقدِم على تحريف النسب أو الدفاع عنه، غافلًا عن حجم التحول الذي تعيشه بلادنا المباركة في ظل رؤية المملكة 2030، تلك الرؤية التي فتحت الآفاق، وربطت المجد بالمنجز، والشرف بالعمل، والمكانة بالإسهام الحقيقي في بناء الوطن، لا بالادعاء والتزييف.

وإن من يفكر هذا التفكير البائس، ويظن أن المجد يُصنع من تزوير الوثائق أو سرقة الأنساب، لا يعي حجم المرحلة، ولا يدرك المعايير الجديدة التي تسير بها الدولة والمجتمع نحو المستقبل، فهو لا يزال حبيس عتمة عقلية متخلفة، ويريد أن يجرّ معه الآخرين إلى منطقة مظلمة من التاريخ تجاوزها الزمن، ولفظها الوعي، ورفضها الضمير الحي.

وإن الاستمرار في هذا النهج لا يُنتج شرفًا، ولا يبني مجدًا، بل يصنع انكسارًا داخليًا لا يُداوى، ويفضح جهلًا مركبًا لا يُستر، فلنعِ المرحلة، ولنترفّع عن الباطل، ولنعمل بصدق، فذلك هو المجد الذي لا يُستعار، والشرف الذي لا يُباع، والمكانة التي لا تُشترى.

والله من وراء القصد، وهو الأعلم بمن صدق، ومن كذب، وهو أرحم الراحمين.

شاهد أيضاً

نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يتطوع ليكون مسؤول المالية

بقلم الكاتب/ عوض بن صليم القحطاني أشار القرآن الحكيم إلى نماذج من تطوع نبي الله …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com