
بقلم: محمد عمر حسين المرحبي
حين نذكر القنفذة، لا نتحدث عن رقعة جغرافية عابرة، بل عن تاريخٍ يشهد له كل شبر من تهامة.
من القوز شمالًا، مرورًا بـحلي، ووصولًا إلى عمق الشريط التهامي حتى محايل عسير، تتجلّى ملامح الرجولة في “لعبة الجيش”، وتُسمع أصوات البنادق في العرضات، وترتجّ الميادين على صدى الزيفة الحماسية.
كانت هذه الرقصة التهامية المجبولة بالكرامة والأنفة، إرثًا لا يُقدّر بثمن، تُقام في المحافل الكبرى، وتُورّث كما تُورّث البنادق والخناجر والبيارق.
فما الذي أصابنا؟ من أين تسللت هذه الرقصات الناعمة التي لا تليق بميادين الفخر، بل تبدو أقرب إلى حفلات الأعراس النسوية منها إلى ميادين العز والشموخ؟!
—
من المسؤول عن تشويه هوية الموروث؟
ما نراه اليوم ليس مجرد تطور أو تجديد، بل تغريب صريح وتشويه فجّ للتراث.
فهل يرضى رجال القنفذة والقوز وحلي أن يتحوّل أبناؤهم من فرسان الميدان إلى مستعرضين على نغمات دخيلة؟
هل يقبل أهل محايل عسير أن تختلط مفاهيم الرجولة والهوية بهذا العبث المقنّع بـ”الابتكار”؟!
إن الرقصات الجديدة، التي بدأت تنتشر كالوباء، لا تمثلنا، ولا تشبهنا، ولا تليق برجال عُرفوا بالحزم، والتقاليد، والغيرة على تاريخهم.
إنها إهانة بكل ما تعنيه الكلمة، لا فقط للموروث، بل لشخصيتنا التهامية الراسخة.
—
أين أنتم يا أهل الحل والعقد؟!
نكتب هذا المقال وفي صدورنا غصّة. لا على ما فُعل فقط، بل على الصمت المريب من شيوخ القبائل، والوجهاء، والمثقفين، والمهتمين بالتراث.
هل سكتّم لأنكم لا ترون؟ أم لأنكم لا تجرؤون على المواجهة؟!
أين أنتم يا وجهاء القوز؟ أين هي غيرتكم يا أعيان حلي؟
ماذا تقولون لأبنائكم حين يسألونكم: لماذا ضاعت “لعبة الجيش”؟
لماذا باتت الزيفة تُزاحمها رقصة ناعمة، وأداء باهت، بلا روح ولا ملامح؟
—
ويا ليتنا اقتدينا بمن حافظ على إرثه!
إننا ونحن نأسف على تراجع موروثنا، لا يسعنا إلا أن نُشيد برجال غامد وزهران، وبني مالك، ورجال الحجر، وقبائل عسير كافة،
الذين ما زالوا يقدّمون إرثهم الأصيل في أبهى صورة، ويغرسونه في وجدان أجيالهم بكل فخر واعتزاز.
لم يفرّطوا في “العرضة” ولا تهاونوا في قيم الرجولة، بل ظلوا أوفياء لماضيهم، واعين لحاضرهم،
حريصين على ألا تُدنّس ميادينهم بروح دخيلة أو رقصة لا تشبههم.
فما الذي منعنا نحن من أن نكون كذلك؟ وأين ذهبت غيرتنا؟
—
لسنا ضد التجديد… بل ضد التمييع!
نحن لسنا ضد التحديث المُنضبط، ولا ضد تطعيم الفلكلور بأدوات العصر، لكننا ضد أن يُمسخ الجوهر لصالح الرغبات العابرة.
العرضة رجولة لا استعراض، والزيفة هيبة لا تمثيل، و”لعبة الجيش” ميثاق لا مشهد استعراضي على “السناب” أو “التيك توك”.
التجديد لا يعني أن تُذبح الأصالة على مذبح “التسلية”، ولا أن يُقلب ميدان الفخر إلى كرنفال بلا ملامح.
—
نختمها بصرخة تهامية
إلى كل رجلٍ في تهامة، من القنفذة إلى القوز، ومن حلي إلى الشريط الساحلي، ومن أعماق محايل عسير:
لا تتركوا الموروث يُسرق من أيديكم، لا تتركوا الغرباء يُحدّدون لكم معنى الفخر والرجولة.
قولوا كلمتكم.
ارجعوا لأصالتكم.
وقِفوا في وجه كل دخيل، بكل حزم وهيبة.
فالموروث ليس للعرض فقط، بل هوية تُصان، وعهدٌ لا يُفرّط فيه.
والله المستعان.
عسير صحيفة عسير الإلكترونية