
بقلم/ محمد عمر حسين المرحبي
التقيت مع مجموعة من الأصدقاء قبل ايام ودار حديت بيننا عن بلدة حلي، لم يكن حديثًا عابرًا، بل كان نافذة واسعة على زمنٍ مضى، زمنٍ كانت فيه حلي من أغنى المناطق معيشةً، ومقصدًا لطالبي الرزق من القرى والمناطق المجاورة. كانت أرضها الزراعية الموسمية تفيض خيرًا عند نزول الأمطار، وتخضر أوديتها، ويأتي موسم الحصاد فتتحول البلدة إلى خلية عمل نشطة، يفد إليها الناس للعمل في الزراعة والحصاد مقابل رزق كريم يضمن لهم حياة أفضل.
في تلك المرحلة، لم تكن حلي مجرد بلدة عادية، بل كانت مصدر عيش لكثير من الأسر، ومركزاْ لحركة اقتصادية بسيطة التكوين عظيمة الأثر. كان الناس يعملون بجد، ويقتسمون التعب والفرح معاْ، وكانت البركة حاضرة في القليل قبل الكثير، وكانت الأرض تمد يدها بالعطاء لكل من طرق بابها بصدق. الحياة كانت شاقة أحياناْ، لكنها واضحة المعالم، تقوم على العمل والصبر والتعاون.
ولم يكن هذا الازدهار مجهولاْ في كتب التاريخ، فقد أشار إليه الرحالة والمؤرخون في وصفهم لبلاد تهامة وقراها، ومنهم ابن بطوطة الذي مرّ بتلك الديار وذكر خصوبة بعض مناطقها وطيب العيش فيها، وما تمتاز به من بساطة وكرم. كما تحدث ابن المجاور في كتابه المستبصر عن خصوبة الأرض وكثرة الزروع وتوفر المياه في مواسمها، مشيراْ إلى القرى التي كانت تشكل مورداْ مهماْ للمعيشة، وكانت حلي ضمن تلك المناطق التي عُرفت بالخير والعطاء.
ومع استحضار ذلك الماضي، وجدتني أتأمل واقع حلي اليوم في هذا العهد الزاهر الذي نعيش فيه. تغير الزمن، وتغيرت معه أنماط الحياة ومصادر الرزق، فلم تعد الزراعة هي المورد الأول كما كانت، ودخلت على الناس أساليب معيشة جديدة، وتوسعت الخدمات، وامتدت الطرق، وتوفرت فرص التعليم والعمل في مجالات لم تكن متاحة من قبل. كثير من الناس تركوا الأرض واتجهوا إلى الوظائف والتجارة، فخفّ بذلك نبض المواسم الزراعية الذي كان يميّز البلدة قديماْ.
ومع هذا التحول الكبير، لا تزال حلي تحمل في ترابها ذاكرة الخير، وتختزن في أرضها قدرة على العطاء متى ما وُجد الاهتمام والتخطيط. فالزمن وإن تغيّر، إلا أن الأرض لم تفقد قيمتها، ولم ينقطع ارتباط الإنسان بها، بل تغيّرت فقط طرق الاستفادة منها.
إن الحديث عن حلي ليس حديثاْ عن الحنين للماضي بقدر ما هو تذكير بقيمة المكان، وبما يمكن أن يُبنى عليه في الحاضر والمستقبل. فالماضي يمنحنا الدروس، والحاضر يمنحنا الأدوات، وبينهما تظل حلي شاهداْ على تحول الحياة من البساطة إلى التنوع، ومن الاعتماد على الأرض وحدها إلى تنوع مصادر الرزق.
تبقى حلي اليوم كما كانت بالأمس، أرضاْ لها تاريخها، وناساْ لهم جذورهم، وحكاية رزق كتبتها السنين في ذاكرة المكان، وستظل تروى للأجيال ما دام في الأرض من يذكر، وفي الذاكرة من يحفظ.
عسير صحيفة عسير الإلكترونية