النوستالجيا… ذاكرةٌ تستيقظ حين نحتاجها

بقلم / عبدالمحسن محمد عسيري

لكلٍّ منّا لحظةٌ قديمة تختبئ في زاويةٍ من الذاكرة؛ لحظةٌ تعود إلينا من غير موعد: رائحةُ مكانٍ انقرض، صوتُ شخصٍ غاب، أو مشهدٌ من طفولةٍ مرّت سريعاً. هذا الشعور الذي نسمّيه اليوم نوستالجيا ليس مجرّد حنينٍ عابر، بل حالةٌ نفسيةٌ معقّدة يقدم فيها العقلُ جرعةَ طمأنينة، ويعيد ترتيب مشاعرنا كلما ضاقت بنا الطرق.

 

النوستالجيا في علم النفس

يرى علماء النفس أن النوستالجيا ليست تفكيراّ في الماضي بقدر ما هي تنظيمٌ للعاطفة.

فالعودة إلى الذكريات الدافئة تساعد الإنسان على موازنة مزاجه، وتعزيز شعوره بالانتماء، واستعادة لحظاتٍ تعطيه معنى الاستمرار. وتشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن استرجاع أحداثٍ إيجابية يحفّز مناطق في الدماغ مرتبطة بالراحة وبالعلاقات الاجتماعية، وكأن العقل يذكّر صاحبه: لقد مررتَ بالأصعب، وخرجت منه أقوى.

ومن اللافت أن الإنسان يتذكّر الجانب الجميل من الماضي أكثر مما يتذكّر قسوته؛ وهي آلية يسمّيها المختصّون الانحياز الإيجابي للذاكرة، وهي طريقة طبيعية يتخفّف بها الإنسان من أثقال تجربةٍ مضت، ليواصل الطريق من دون أن يحمل كلّ أثرٍ على كتفيه.

 

الحنين في ضوء القرآن

على الرغم من أنّ كلمة “نوستالجيا” ليست واردة في القرآن الكريم، فإن روح الحنين المنظّم واستحضار الماضي بمعناه البنّاء حاضرة فيه.

يقول تعالى:

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾

وفيها دعوةٌ إلى استحضار الماضي باعتباره مدخلاً للشكر والتأمل.

ويقول سبحانه:

﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾

وفي ذلك توجيه بأن الذاكرة ليست مجرد مشاهد تُستعاد، بل وسيلةٌ للفهم والاعتبار، وهو ما يشبه الدور الصحي للنوستالجيا حين تُمارس بوعي.

 

لماذا نشتاق؟

لأن الإنسان بطبيعته لا يحفظ السنوات، بل يحفظ اللحظات.

يشتاق للأماكن لأنها احتوت أشخاصاً أحبّهم،

ويشتاق للأيام لأنها خبّأت نسخاً أبسط منه،

ويشتاق لذكرياته لأنها تذكّره بأن الخير الذي رآه يوماً ليس بعيداً عنه اليوم.

 

النوستالجيا… قوة وليست ضعفًا

كثيرون يظنّون الحنين شكلاً من أشكال الهروب، غير أنّ علم النفس يراه أداةً في مواجهة الضغوط.

فالذكريات الطيبة تخفّف القلق، وتُشعر الإنسان بالاتّساق مع ذاته، وتساعد المرضى وكبار السن في ما يعرف بـ العلاج بالذكريات على تحسين مزاجهم وتقوية شعورهم بالهوية.

 

بين الماضي والحاضر… خيطٌ رفيع

الماضي ينبغي أن يكون محطّة نستريح عندها، لا بيتاً نقيم فيه.

نزوره، نستفيد من دروسه، ثم نعود إلى الحاضر بخطوة أكثر ثباتاً.

وهذا المعنى ينسجم مع قول الله تعالى:

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾

في تذكيرٍ واضح بأن الماضي يُفهم… ولا يُعاد العيش فيه.

 

ختاماً

النوستالجيا ليست رفاهيةً عاطفية، بل جزءٌ من تكوين الإنسان.

وجمالها أنها تربطنا بنسخةٍ من ذواتنا كانت أقرب للبساطة والطمأنينة.

وكلّما زارنا الحنين، لنتذكّر أنه لا يأتي ليُقيد خطواتنا، بل ليذكّرنا بسببٍ جديد يجعلنا نواصل الطريق

شاهد أيضاً

فمن تطوع خيرا..

بقلم د/ عوض بن صليم القحطاني في يوم 5 ديسمبر يوافق اليوم العالمي للتطوع.. فاحببت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com