حقيقة الخيرية



روى لنا التاريخ إنه قيل لعمر َبنِ عبد العزيز لو أتيت المدينة وأقمت بها، فإذا مت دُفنتَ بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن في الحُجرة متسع لقبر رابع ، فقال: والله لأن ألقى الله عز وجل بكل ذنب خلا الشرك أحب إلي من أن يعلم أنني أرى نفسي أهلاً لذلك .

إذنْ – قارئي العزيز – لا تغتر بكثير من الصور والهيئات ، ولا تنخدع بجُملٍ من الخطب والكلمات ، واعلم أن سر صدق الصالحين ، ونقاء نفوس المتقين يكمن في معرفتهم بقدر نفوسهم ، وعدم الإدلاء بأعمالهم ، والتطلع إلى ما ليس لهم ، فمن نظر إلى نفسه بأنه خير من فلان من الناس بعبادة ، أو سلوك ، أو وظيفة ، أو منصب ، فقد استكمل في الدنيا الخسارة ، وحلت به يوم القيامة الندامة ، وفي كتب الأولين أن عابدًا رأى في المنام قائلاً يقول له : فلان الإسكافي – الذي يصلح الأحذية – خير منك ، فنزل من صومعته ، فجاء إليه فسأله عن عمله ، فلم يذكر له كبير عملٍ ، ثم قال : إلا أني ما رأيت أحدًا إلا وظننته خيرًا مني ، فقيل له : فبذاك ارتفع .

إذن فالخيرية الحقيقة تكون بالمعاني ، لا بصور العلم والعبادة ، ولا بدرجات المناصب والرئاسة ، فمن ملأَحب الظهور والشهرة وجدانه ، وشغل الارتفاع والعلو على الناس جنانه ، وظن أنه خير من فلان وفلان في بعض أو كل أحيانه ، فقد أحبط عمله ، وأفسد قلبه ، وأسرع الهلاكُ في دينه وبدنه.

ومن ترجّح لك بالدليل الدامغ ، والبرهان القاطع أن هذا مراده ، وإليها كان سعيه وغايته ؛ فعِظه فإن لم يتعظ ؛ فاصرف ناظريك عنه ، واغسل يديك منه .

فإن الصادق أرفع ما يكون عند الله ، أوضع ما يكون عند نفسه ، وأوضع ما يكون عند الله ، أرفع ما يكون عند نفسه .

وإذا عرف المرء قدر ربه حق معرفته ، عرف قدر نفسه ، وأغناه الله عن حب معرفة الناس له ، وأبعد كل البعد عن تمني الشهرة ، والسعي إليها .

ومن هذا الباب ما يُذكر عن عمر بن الخطاب أنه لما أرسل النعمان بن مقرّن للفرس بجيش عظيم ، كان يخرج كل ليلة على أطراف المدينة المنورة – على منورها أفضل الصلاة والسلام – ينتظر الأخبار ، وفي ليلة من الليالي جاءه الخبر بنصر المؤمنين ، فقال للمُخْبِر من قُتل من المسلمين ، فقال : النعمان بن مقرّن ، وفلان ، وفلان ، وعمر يبكي ، حتى قال له : وأناس يا أمير المؤمنين لا نعرفهم ، فزاد بكاؤه ، وعلا صوته ؛ وهو يقول : وما ضرهم إن لم يعرفهم عمر ، إن كان الله يعرفهم .

ومنه أيضًا ما أورده الغزاليُ في إحيائه عن مالك بن دينار أنه قال : لو أن مناديًا ينادي بباب المسجد ليخرج شرُكم رجلاً ، والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب . فلما بلغ ابن المبارك كلامه ، قال : بهذا صار مالكٌ مالكًا .

روى البيهقي في شعب الإيمان عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه ، أنه قال : ( شهدتُ غزوة خيبر ، وكنتُ فيمن صعد الثُلْمَةَ – ثغرٌ في الحائط – فقاتلتُ حتى رُئيَ مكاني وعليَّ ثوب أحمر ، فما أعلم أني ركبت ُفي الإسلام ذنبًا أعظم عليَّ منه ) .

هذا حالهم ، وأما حالنا فالغِرُّ منا إذا عمل مثل هذه الأعمال ظن أنه خير البشرية حالاً، ووجب أن يُثني عليه الناس خير ًا ، وإن لم يجلسوه في صدر المجلس فقد أهانوه وما عرفوا له قدرًا ، وإذا تكلم كان أعم حديثه أنا وأنا ، وقد قيل : من أكثر من أنا فهو أكذب الناس حديثًا .

والعجب كل العجب ، مع العتب كل العتب على من عرف حاله ، وكشف ستره ، وعلم سر ه، وما زال يُجاريه ، وبالتعظيم يُداريه ، فلا هو يصدقُ فيُبدي له عَوَاره ، ولا هو ينأى بنفسه عن جواره .

وأخيرًا قارئي الكريم : حسبي ماذكرت ُ، ولعلك فهمتَ ما قصدتُ.

>

شاهد أيضاً

أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري

صحيفة عسير – مها القحطاني : استقبل صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان بن …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com