لله ما أعطى ولله ما أخذ، وأعلم وأؤمن أن الميلاد والغياب من سنن الله في معمورته، إلا أن رحيل والدي -رحمه الله- أشبه برحيلي عن نفسي، فالشوق لم يعد له حضن ليرتاح، ولا موئل ليؤول إليه. سبحان الباقي، لا نشعر بروعة الوالدين إلا عند رحيلهم، ولهذا كتبت لكم عن والدي الرائع مثل كل آبائكم الرائعين فعندما يموت آباؤنا تخترق قلوبنا غشاوة حزن وألم لا يعرف حرقتها إلا من كابدها.
لقد كان والدي -رحمه الله- رائعاً ككل آبائكم البسطاء الرائعين، ومن فطرة الله في خلقه أننا نحب آباءنا أكثر عند رحيلهم، علماً أن فقدان والدي كان متوقعاً، فقد كان مريضاً طريح الفراش منذ أكثر من ثماني سنوات لم يشتك فيها من ألم ولم يعترض على غياب نعمة، وكان رحمه الله كثير الصبر والابتسام، قليل الكلام.
أشياء كثيرة عن والدي لم نعلم عنها إلا بعد مرضه، رحمه الله وجعل صبره على مرضه تمحيصاً وأجراً وثواباً وتثبيتاً له في قبره الذي أدعو الله برحمته وكرمه أن يجعله روضة من رياض الجنة.
كان والدي يجدد وصيته دائماً وينصحنا بذلك حرصاً منه على ما جاء في السنة النبوية، ويشرح فيها ويسهب موصياً أبناءه وبناته وأحفاده الإخلاص لله عز وجل، وأن نحافظ على صلواتنا وزكاتنا، ويوصينا بوالدتنا الخير كل الخير، وكتب في وصيته الأخيرة عن والدتي، أمد الله في عمرها وعمر أمهاتكم، كيف أنها كانت خير رفيق له في حياته وكيف كانت تساعده على حسن العبادة، وأوصانا أن نهتم بأكلها وعلاجها.
ولطالما حدثتنا والدتي أطال الله بعمرها وأحسن خاتمتها، عن عادات والدي رحمه الله مطلع كل عام هجري، حيث اعتاد أن يسألها: “هل تذكرين أني ظلمت أحداً فأطلب منه السماح، أو نسيت حق أحد فأعيده شاكراً، هل تذكرين صلاة فجر فاتتني في مسجد أو حتى أي صلاة؟ هل ظلمتك يا أم محمد في شيء؟
وكان والدي رحمه الله لا يطلب ولا يرغب ولا يحلم من الدنيا بشيء، فقد كان قنوعاً كريماً، وكان راتبه الشهري مباركاً يكفي جماعتنا.
كان والدي أسأل الله أن يظله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ممن تنفق يمينه ما لا تعلمه شماله، وقد كان هناك الكثير من المواقف التي لم يذكرها لنا، ومنها تفضيله المساكين والمستورين ومجاورتهم، والحديث معهم، وقد ذكر الكثير منهم ما كان يقدمه مما يستطيع من دخله الشهري، هو وصديق عمره خالي الراحل علي حسن، وكيف كانا يحبان أن يقوما بكل ما يشجع على التسامح والاحترام والرحمة بين أفراد قبيلتنا.
وكان والدي رحمه الله هو الوحيد من إخوانه الذي غادر قريتنا (المسليعة) ليكون عسكرياً قبل خمس وستين عاماً تقريباً، وبقي يدين بهذا الفضل لأخيه يحيى رحمه الله لأنه أذن لوالدي أن يبحث عن رزقه في أرض أخرى، مقابل أن يبقى عمي يحيى مسؤولاً عن العائلة والبلاد، كما نسميها في عسير.
وأذكر في ما أذكر، عندما أبلغنا والدي بوفاة أخيه يحيى أن قال: “لم يبق من أوراق الشجرة إلا أنا، وأرجو رحمة ربي وأسأل الله أن يهب له رحمته”.
ويعتز والدي كثيراً ودائماً -رحمه الله- أنه خدم القوات المسلحة أربعين عاماً وفي عز مرضه كان يسعده أي حديث عن الجيش وأي زيارة من زملاء العسكرية.
أكتب هذه السطور دامعاً، وأتذكر زميلي العزيز الأخ عبدالرحمن مفرح وهو يوصيني بعد وفاه والده -رحمه الله- بالبر بوالدي والحرص في ذلك لأنني لن أشعر أبداً بحجم والدي إلا عند رحيله، فقد بنى لنا بيتاً متواضعاً من راتبه البسيط، بناه بعد أربعين عاماً في خدمه الجيش، وعاش فيه منذ عام 1406 سنة تقاعده في تبوك، ثم انتقالنا إلى خميس مشيط.
لقد كانت أحلام أبي أحلام المؤمن أن الدنيا محطة وأننا راحلون عنها، وكانت غايته هي رضا الله وطاعته والجنة، ولم يكن يبحث عن تجارة أو أراض أو منح أو أي شيء، بل كل ما يطلبه حسن الختام، ويعد العدة لتلك الخاتمة.
الآن رحل والدي إلى الرحمن الرحيم، وأسأله تعالى بلطفه وكرمه أن يتقبله وأن يلطف به، وأن يؤنس وحشته في قبره وأن يبدله داراً خيراً من دارنا، وأن يجمعنا به في جنان النعيم، وأسأل الله الرحمة والغفران لمن مات والداه أو أحدهما، وأوصي من يعيش والداه بين ظهرانيه أن يزيد في برهما وأن يحضنهما ويضمهما إلى صدره وأن يقبل أرجلهما.
دعواتكم بالجنة لوالدي وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.>