لا مقارنة بين الحج في زمننا الحاضر والحج في أزمنة مضت، إذْ كان الحاج في «الزمان الماضي» يلقى من المشقة والتعب والجهد ما الله به عليم، حتى كان يقال لمن نوى الحج في ذاك الزمن الماضي «الذاهب إلى الحج مفقود، والعائد منه مولود»، كتعبير لما يلاقيه الحاج في أزمنة سبقت العهد السعودي من الخوف وفقدان الأمن، وما يجده من صعوبات جمّة في طريقه للقيام برحلة العمر من عذابات السفر، حتى قيّض الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – طيَّب الله ثراه – الذي أرسى قواعد كيان المملكة العربية السعودية، ليسود الأمن والرخاء ربوع الوطن، ويقضي على الاضطرابات والحروب والفتن، ويسخِّر كل جهود الدولة لخدمة ضيوف الله، بعد أن أفاض الله بالخير على البلاد، من جراء الاكتشافات النفطية التي زادت من موارد الدولة ومداخيلها المالية ومن إمكاناتها، فكانت خدمة حجاج بيوت الله على رأس أولوياته، وتحوّل هذا الأمر العظيم إلى منهج للدولة من أجله تُسخّر كل الجهود، وهو النهج الذي سار عليه من بعده الملوك رحمهم الله جميعاً، حتى كان عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز- وفّقه الله وسدّده لما فيه خير بلاده والعرب والمسلمين – الذي بذل ومازال يبذل مع رجالات حكومته كلاً في القطاعات المختلفة المتعلّقة بشؤون الحج؛ ما يحقق أرقى الخدمات التي تقدم لخدمة ضيوف الرحمن، ليعودوا إلى بلدانهم وقد أدّوا فريضتهم على الوجه المطلوب، ونحن في الأيام القليلة المقبلة سنشهد وفود الحجاج إلى منى في يوم التروية وفي قلوبهم شوق لمكة المكرمة والمشاعر المقدّسة، وقد امتلأت قلوبهم بإيمان يفيض إيماناً وعلى ألسنتهم أدعية الشوق لإجابة أمر ربهم «لبّيك اللهم لبّيك .. لبّيك لا شريك لك لبّيك.. إنّ الحمد والنعمة لك والمُلك.. لا شريك لك»، وفي أعينهم بريق فرح يسوقه الشوق الكبير، واللهفة لرؤية الكعبة المشرفة، ورغبة جامحة في أن يطفئوا عطشهم من ماء زمزم، وتلامس أجسادهم ثرى منى، وصعيد عرفة، وبداخلهم كلمات مشتاق هيّجه الحنين لمكة والبقاع الطاهرة فأنشد:
ويلوح لي ما بين زمزم والصفا
عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول لي يا نائما جد السُرى
عرفات تجلو كل قلب صادي
ليبدأوا حجهم بالوقوف على صعيد عرفات في موقف مهيب، ثم تتوالى أعمالهم لمناسك حجهم، وقد عزموا العزم في تجارتهم مع الله أن يكونوا من الرابحين في أعظم تجارة ليغسلوا قلوبهم من الذنوب، وأردانهم من المعاصي، نسأل الله أن يوفِّق الدولة ويسدِّدها لتقديم واجب خدمة ضيوف الله كما هو عادتها في كل عام وهي تجنِّد كلّ مؤسساتها ورجالها لخدمتهم، وأن يقبل من الحجاج حجهم، ويعود كل حاج إلى بلده سالماً غانماً بالأجر الوفير، بعمل مقبول، وذنب مغفور من ربٍّ كريم. >