اخترتُ الكتابة عن الجَمال بعد أن مُنِعتُ من الكتابة عن صراعات الواقع، وذلك حقُّ الرقيب الجميل، “وشفّي”، ولذا اخترتُ لذلك روايةً أشهى من الشّهْد، وأنقى من قلوبِ الأنقياء الذين راقت لهم هذه الرواية اللذيذة.
قبل اثني عشر عاماً، أصدر أحمد أبو دهمان – باللغة الفرنسيّة – رواية: “الحزام”, ثمّ صدرتْ الطبعةُ العربيّةُ منها بعد عام من صدور طبعتها الفرنسية, لتكون واحدةً من الرّوايات العربية القليلة المهمّة التي كُتبت أوّلا بلغةٍ أجنبيّة.
و “الحزام” تصوّرُ الحياة في قرية الكاتب التي عاشَ فيها أيّامَ طفولته قبل أنْ يهاجرَ إلى فرنسا, تصويراً ينزع نحو الحنين، وذلك بدهي، فأدباء الرّيف أكثر النّاس حنيناً إلى الزمن الماضي، وإلى المكان الفائت؛ ذلك أنّهم يُصدمون بمظاهر المدنيّة الحديثة، لتتداعى على أذهانِهم صُورُ الزّمن الماضي، وأيّام الطفولة، ببراءتيها: براءة الحياة الريفيّة الفطريّة, وبراءة الطفولة نفسِها، وعلى النقيضِ من هذه الصّورة الرومانسيّة الحالمة لعوالم الحياة القرويّة، تكونُ المدينةُ – عند الأدباء المهاجرين من الأرياف- قرينةً للغربة والتمزّق والصّخب والتهافت على المادّة، وهي حالٌ عامّةٌ، فالمدينة تصيرُ رمزاً للضّياع والقلق وذبول المشاعر.
ويبدو أنّ كتابة أحمد أبو دهمان للحزام، كانت محاولة لاستعادة ذلك المكان الجميل الواقع إلى الشرق من منطقة عسير، من أجل استعادة نفسه، يقول عن أسباب كتابتها: “لأنّ “حزام” أورثني ذاكرته – ذاكرة القرية، لذا كان عليّ أن أعثر عليّ”, لتكونَ القريةُ في هذه الرواية أنموذجاً للمكان النفسي, وهو المكانُ الذي يُصوّرُ مقروناً بخلجات النفس, وأمنياتها، وحنينها، وغبنها على ما كان في ظلّ ما يحيط بها من أحداث ووقائع, أي من خلال حالة الحنين بمفهومه الشمولي, وذلك يتّضح من حرص الكاتب على تصوير قريته الوادعة – آل الخلف- تصويراً شاعريّا يجعلُ منها لوحةً في صورة قرية, وهو ما يحرص الكاتبُ على إحضاره إلى الأذهان كلّما سُئل عن سرّ الغنائيّة العالية التي تسمُ روايتَه, يقول في أحد الحوارات: “ولدت من قرية كلُّ ما فيها كان يغنّي، فالغناء هو سرُّ حياتها. كانت قرية منتجة وعاملة، تستيقظ في الرابعة صباحا. وقد كان لدي يقين بأن القرية لا تنام، لأنّ كلَّ ما نصحو عليه لا يشير إلى أنّه نام لحظة واحدة: الأشجار، الآبار، الحقول، الأمطار، الطيور، الطرقات… لا توحي بأن النوم مرَّ على القرية”, ولأنّه يصوّر قريته كما كانت أيّام طفولته, فقد عدّها البعض “سيرته الذاتيّة المبكرّة وسيرة قريته”. وقد حقّقتْ هذه الرّواية شهرةً واسعةً في الثقافتين العربيّة والفرنسيّة, فأُعيدتْ طباعتها عدّة مرّات, وعُقدت حولها لقاءاتٌ ثقافيّةٌ مختلفة, حيث استضافت مكتبة الملك فهد الوطنيّة الكاتب سنة 1421هـ في لقاء بعنوان: “كاتب سعوديٌّ في باريس” ونالتْ الرواية –حينها – ثناء الكثير من النقّاد, وأقام نادي أبها الأدبي في العام نفسه محاضرةً, بعنوان: “قراءة في رواية الحزام”, للدكتور معجب الزهراني, وغيرها من المناشط التي تدورُ حول الكاتب وروايته في صورة توحي باختلافها من حيث: اهتمام الفرنسيين بها, وتركيزها على التحوّلات الاجتماعيّة بطريقة مغايرة للسائد في الروايات التي عاصرتْها, وما تزال هذه الرواية تغري النقّادَ بالنظر فيها من غير جانب.
“الحزام” دستورٌ للحبّ والجمال والتسامح والحياة.
أدعوكم إليها لتشعروا بالكثير من الطمأنينة.
>