الرثاء واحد من أصدق الأغراض الشعرية وأعمقها تجربة، وقد فطن بعض القدماء إلى ذلك، فيما تعامل آخرون منهم مع قصيدة الرثاء بوصفها قصيدة “قصدية” وحسب، فكانت عندهم كغيرها.
وبين الفريقين بون كبير، في فهم المعنى الحقيقي للتجربة الشعرية؛ ففي حين أدرك الفريق الأول أن قصيدة الرثاء تصدر عن تجربة واقعية، ومعاناة حقيقية، تبوح بها عبارة الأعرابي التي أوردها الجاحظ: “…قيل لأعرابي: مابال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأننا نقولها وأكبادنا تحترق”، ولذا لم يتحفظ الشعراء عند القول في الرثاء، كما هو حال بعضهم مع غرض المدح الذي كان بعضهم يتحوطون منه خشية الوقوع في التزلف والكذب، أما الرثاء فلم يكن هناك ما يحول بين الشاعر وتعبيره عن آلامه لفقد من يحب.
ويبدو أن ما بين الغرضين من تشابه في معنى الثناء، هو ما جعل قدامة بن جعفر، وأشباهه كابن رشيق، يعدون المدح والرثاء شيئا واحدا، وتلك نتيجة بدهية لنظرتهم الشكلية التي تختلف عن نظرة الجاحظ الغائصة في العمق الشعوري للتجربة، يقول قدامة: “ليس بين المرثية والمدحة فصل، إلا أنْ يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لميت، مثل: كان، وتولى، وقضى نحبه، وما أشبه ذلك”، ووافقه في هذا ابن رشيق القيرواني، حين قال: “وليس بين الرثاء والمدح فرق، إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود ميت، مثل: كان، أو من مناقبه كيت وكيت، وما يُشاكل هذا، ليُعلم أنه ميت”، وهي أقوالٌ تتجاهل الحالة الشعورية، والباعث على القول لكل من المادح والراثي، وتنظر إلى المعنى الشعري العام، دون جوهر الشعر، وإلى شكله، دون دوافعه؛ ذلك أن هناك مسافة طويلة بين التجربة الشعرية في الحالين، لأن المدح قد يكون صادرا عن الإعجاب أو الطمع، بينما يصدر الرثاء عن فجيعة ولوعة وأسى وإحساس عميق بالفقد، كما أن هذه الأقوال تُغفل أنواعا أخرى من الرثاء، مثل: رثاء النفْس، ورثاء المدن والممالك الزائلة.
ولعل الباحثين حين يفرقون، في هذا الغرض بين ثلاثة ألوان هي: الندب والتأبين والعزاء، قد أدركوا الفروق الدقيقة بين الصدق وأضداده، فهم يجعلون الندب خاصا ببكاء الأهل والأقارب، حيث يظهر هول المصاب، ومقدار الفقد، فيما يكون التأبين أقرب إلى الثناء منه إلى الحزن والتفجع، قال ابن سلام الجمحي: “التأبين مدح الميت والثناء عليه”، أما العزاء فهو “مرتبة عقلية تعلو مرتبة التأبين، ينفذ فيها الشاعر من حادثة الفقد المفردة، إلى فلسفة الموت والحياة.
إن بعض أحكام القدماء النقدية، تحتاج إلى نظر دقيق، يفرق بين العارفين بالشعر بوصفه مرآة لغوية تعكس الوجدان، والعارفين به بوصفه صناعة قولية ممتازة، تتسم بالإتقان والتجويد فقط.>
شاهد أيضاً
الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة
صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل : انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …