لم يعرف العربُ فعلاً خارقاً مثلَ قول الشّعر, حتّى إنّهم ربطوه بالجنّ والشياطين, وصارَ لكلّ شاعر منهم شيطانه الذي يُعرفُ باسمه؛ فشيطان امرئ القيس يُسمّى لافظ بن لا حظ, وشيطان الأعشى هو مسحل السكران بن جندل, وشيطان عبيد بن الأبرص هو هبيد … وهكذا كانت تلك الأساطير نابعةً من الحيرة أمامَ هذا الفنّ القوليِّ الممتاز المسمّى بالشعر.
والحقّ أنّ كتابة القصيدة أو قولها شفاهيّةً – أي فعل الإنشاء – أمرٌ معقّدٌ حتّى بالنسبة إلى قائلِ القصيدةِ نفسِه؛ ذلك أنّ للقصيدة سوابقَها, وهي ما يسمّيه أهلُ النقد بالتجربة الشعوريّة, وتتعلّقُ مباشرة بالسيكولوجيا, لأنّها حالةٌ نفسيّةٌ تسبقُ الكتابة, وهي حالةٌ متطوّرة في النضج والتقلّبات والآلام والاحتراقات, تلحقُها حالةٌ متطوّرة في التقنيات الشعريّة؛ بمعنى: أنّ تطوّرَ أدوات الشّاعر, وتعدّدَ قراءاتِه تفضيان به إلى خدمةٍ أكثر للنصوص, وإلى ابتكار الطرائق والصور, وتحقيق تمايز النصوص عن بعضِها بحيثُ تصبِحُ حالاتٍ مختلفة لا حالةً واحدة كُتبت في أكثر من قصيدة, ومثلُه امتيازها عن قول الآخرين, حتّى تصبحَ للشاعر طريقتُه التي تتحدّدُ بها هويّته الفنيّة, بينما لا يكون الشعراءُ على هذه الحال في البدايات, وإنّما يستعجلون الإنشاء قبل النضج الشعوري, ويلهثون خلفَ النشرَ قبل النضج الفنّي, وقبل استقلال الأسلوب, وهو مالم يسلمْ منه إلا القلّة من ذوي الخطط والاستراتيجيّات.
والشعرُ قبل أنْ يكون وسيلةً للشهرة أو الوصول أو الكسب أو الكرسي هو فنٌّ للوجدان, يقوله الشاعرُ الحقيقي ليرضيَ ذاتَه, مادامَ يمتلكُ أدواتِه, ولذا باتت لفظة “وجدان” مصطلحا أدبيّا يشير إلى تأثر الإنسان بحالات اللذَّة والفرح, أو الألم والحزن, وقد أفاض اللغويون, والباحثون في تعريفاتها, لكنّ “الوجداني” في الشعر صفة تطلقُ على ما يتعلق بالوجدان في معناه الذي هو: “حالات نفسيّة من حيث تأثرها باللذة أو الألم”.
ويستطيع المتذوّقُ أنْ ينظر إلى الشعر الذي يقوله الشعراء من أجل إرضاء ذواتهم, وتهدئة نفوسهم, على أنّه من هذا النوع الذي يكاد يسيطر على جانب كبيرٍ من الشعر الحديث, ويحقّ للشعراء -ولا لوم عليهم, وليس لأحدٍ أنْ يغضبَ- أنْ يعبّروا عن آلامهم, ولذا فإنّهم يكثرون من معاني الضيق, والنقمة, وتلك طبيعة الشعراء, إذ هم القادرون على التعبير عن آلام الذات؛ وما تعبيرهم عن أوجاع الذات إلا تعبيرٌ عن أوجاع الأفراد من غيرهم.
وهكذا تتداخل مناجاة النفس مع التأملات, حين تشتدُّ حاجةُ الشعراء إلى الأمن النفسيّ, وتتعدّد طرقُ بحثهم عن السعادة, بيد أنّ التأويلات المريضة, والإسقاطات الجاهلة قد تفسدُ على الشعراء لحظات التلذّذ بالبوحِ, وما ذاك إلا لأنّ الرملَ يتكاثر على بعضِ الرؤوس التي تظنُّ كلّ قافيةٍ صيحةً عليها, وهو شأنُ المريب الذي يكادُ أنْ يقولَ خذوني.
أمّا الذين يقولون الشّعر ليَقول النّاسُ عنهم : إنّهم شعراء, أو لنيل المناصب الثّقافية, أو الشهرة, فإنّهم – حتماً – سيتوقّفون, أو يعودون إلى الاجترار بعد تحقيق مآربهم من قول الشعر, وهؤلاء كثُر , وهم – في حقيقتِهم- لا يعون الماهيّة الحقيقيّة للشعر, ولذا لا يكونُ لما يقولونه التأثير, أو الخلود, وإنّما يحقّقون به الأهدافَ الدنيا, وهي دانيةٌ بالشعرِ أو بعض التزلّف أو الكذب, فالشعرُ ليس الوسيلة الشريفةَ للحصول والوصول, وربّما يكونُ أسوأ الوسائل لأنّ استخدامَه طريقاً للأغراض يعني امتهانَه, وهو امتهانٌ يدلُّ على خللٍ أخلاقيٍّ كبير والعياذ بالله .
إنّ عمليةَ الإلهام الشعريّ ليست وليدةَ لحظةٍ وحيدة, وإنّما هي نتاجٌ مُعقّدٌ لتجارب وخبراتٍ متراكمة, لكنها تولد في لحظة التجلّي لتنتجَ صورةً نهائيّة لمؤثّراتٍ متتابعةٍ قد تكون متباعدةً زمنياً, بيد أنها تبقى مشتعلة في الوجدان حتى تنتجها الخبرةُ الجماليّة, والتداعي الحر, والتمكّنُ من الأدوات اللغويّة فتصير نصّا شعريّا مؤثرا صادراً كل ما يحيط بالشاعر من أسباب: البؤس والشقاء, أو أسباب السعادة , وأنا أزعم أنَّ كلَّ ما يحيط بالشاعر من معنويات وحسيات وأفعال هي مصادر إلهام: التراث الشعري, القراءات بإضافاتها وتأثيراتها, المرأة في قربها وبعدها وأنوثتها وعقلها, المكان بجماله وقبحه, المجتمع بتناقضاته, الممارسات الإنسانية الشريرة والخيّرة, الوفاء , الغدر, الحب , البغض, الغضب, الرهبة, الرغبة, الكبت, الحرية, القيم, التجارب؛ فالشاعر يدخل إلى بهو القصيدة متخطّياً عتباتٍ كثيرة, ذات أشكال ومستويات مختلفة, ثم إذا صار تحت قبة النص فإنه يستحضر الحالة متألما أو منتشيا حتّى إذا جاءته جملة البدء, أو المطلع بدأ في مزج الوجدان بالعقل ليصنع النص, فيقلِّبُ اللغةَ على جمر الشعور والفكر لتستوي لهُ القصيدةُ خلقا جديداً كاملاً ترضى بها ذاته, وتهدأ ببوحها روحُه القلقة.
و الأقربُ – كما أزعم – إلى حقيقة الشعر أنه تعبير لغوي عن نفسية الشاعر, وتفاعله مع البيئة بمفهومها الكبير, وهو يلتقي مع الفلسفة في كونه يصدر عن رؤية, ويختلف معها في اعتماده على الخيال الأبعد, ولذا لا يكتب القصيدة لمجرّد أن يكتبها, أو ليظهرَ أمامَ النّاس قادراً على القول, وإنما يكتبها لترتاح نفسه بكتابتها, بعد أن تكون فكرتُها قد سايرتْه أياماً ولياليَ, فالنصُّ الشعريُّ بناءٌ نفسي يحتاجُ إلى الكثير من الاحتراق الداخلي, ثم يحتاج إلى الكثير من الدقة في انتقاء الألفاظ لفظاً لفظاً, بحيث تنهض هذه الألفاظ بالتعبير عن المراد, وتتسق مع موسيقى النص من الناحية العروضية فلا كسور, ولا علل, ولا ألفاظ في غير أماكنها, ولاضياع للمعنى, ولاتشويه للصورة.
أمّا عن قصيدة النثر؛ فهناك قصائدُ نثر لا أستطيعُ أنْ اقولَ عنها إلا أنّها شعرٌ خالص, ومن ذاك ما كتبه محمد الماغوط مثلاً, فهي ذات بعد فلسفي عميق جدّاً, بحيث تختلفُ عن الخاطرة, وعن الكتابة السرديّة, وهناك قصائدُ موزونةٌ لا تمتُّ للشعر بأيّ صلة, وعلى المستوى الشخصيّ لم أحاول كتابة قصيدة النثر لأنّني لا أستطيع, إذ لم تعتدْ عليها أدواتي, ولم تتربّ عليها ذائقتي الأولى, ولم تكن من مؤسِّسات جيلي, وعلى الجانب الآخر نقرأُ قصائدَ عموديّة تتجاوز في حداثتِها كلّ النصوص الحديثة, وتسبقُ في فجائيّاتها المعنويّة والتصويريّة واللغويّة والبنائيّة قصيدتي النثر والتفعيلة معاً؛ فالحداثة لا تعني الشكلَ ولا تتعلّقُ به, حتّى إنَّ هناك قصائد تفعيليّة كُتبت بعقليّة تقليديّةٍ مُتكلّسة .
الأمر لا يتعلق بالشكل أبداً .. ويبقى الشعرُ سامياً, لا يخلدُ منه إلا الشعر المصفّى من شوائبِ الغايات .
>
عسير صحيفة عسير الإلكترونية