سكك الحديد ولعنة (لورانس)

قرأنا التاريخ، لكنَّ استقراءه غير قراءته.. قرأنا عن الحرب العالمية الأولى مثلا، وعرفنا نتائجها، وسجّل التاريخ لبريطانيا العظمى (أو عليها) استراتيجيّتها حول ضرورة القضاء على الرجل المريض (الدولة العثمانية)، ودعمها الثوريّة العربية الكبرى المُزيّفة بعملاء بريطانيا -بإرادتهم أو بدونها- للقضاء على هذه الامبراطورية المرشحة للأوليّة وريادة العالم بسبب ما تملكه من الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاستراتيجية والروحية …

وخلال زيارتي -ذات يوم- محافظة (العلا) استوقفتني أشياء ومحطات وآثار كثيرة سأتحدث اليوم عن أحدها وعن نتائجه وهو: تدمير سكة الحجاز التي أنشأها السلطان عبدالحميد الثاني صلةً حيويةً بين تركيا والشام والحجاز والتي افتتحت سنة 1326هـ ولم تُعمَّرْ سوى ست سنوات، حيثُ قام بتدميرها صديق العرب (لورانس) حباًّ في عيونهم عاربتهم وأشرافهم لإنقاذهم من هذا الوحش الضاري الذي سيكون شريانا حيويا بين هذه الأقاليم، وخطورته أنه قد ينمو حتى يشمل العراق وبلاد فارس وفلسطين وقد ينتقل هذا الوحش حتى يصل أقاليم الشمال الأفريقي بأقاليم المشرق! وقد كان التدمير في قلب جزيرة العرب المقصودة أصلا بالربط، فكان يرتكز على محطتي (أبي النعم) و(المدرج) جنوبي (العلا) وتفجير أحد الجسور الكبيرة عند محطة (المعظم) شماليها.

حاولتُ خلال رؤيتي للأماكن أن أخرج من التاريخ الحفظيِّ الجاهز الذي تلقَّنَّاه من كتب قرأناها، وتحرَّرتُ مع نفسي متسائلا: لم لا نعتبر الثَّورة العربيّة الكبرى هي الكوميديا الأولى والأبرز في التاريخ العربي الحديث؟ ثمَّ تخيَّلتُ أنني أرى ضحكَ ذلكم العاشق الإنجليزي للعرب وهو يقوم بدوره البطولي مجاهدا نيابةً عن عيون العرب!غير أنِّي صرفتُ النظر عن هذه الصور الكوميدية حين وقعتُ في السؤال المباشر الذي كان سببا مقنعا -كما أتصور- للورانسنا المبجل حبيب الثورة العربية الكبرى، هذا السؤال هو: ماذا لو استمرّت هذه السكة وتم استكمالها باتجاه جنوبي الجزيرة والعراق وفلسطين ومصر والمغرب العربي؟ وتخيَّلت خيالا فقط بحيث كانت لي إجابات محدودة أجزمُ أن القارئ سيكثر من غيرها أفضل مني ومنها: أن الحدود التي رسمتها بريطانيا العظمى وتولّت إرثها السيدة الوريثة (أمريكا) لن تكون كما أرادتا، وأن مواطني هذه الأقاليم (حتى لو كانت دولا مجزّأة) لن يبقوا رعايا بالشكل العجيب الذي نراه اليوم في المطارات والموانئ والمنافذ العجيبة، لأن ثقافة الاتصال البريّ عن طريق القطارات كثيرا ما تكون شديدة الوصل بين الناس وبالتالي تضغط بشكل آلي على القرارات السياسية في تسهيل الاتصال. ومنها أيضا : تلاشي الفروق الثقافية التي سبَّبها التقوقع الإقليمي المضحك وسبَّبتْ هي تنوّعاً مزيّفا ممقوتا بين الأقاليم الصغيرة (الدويلات) حتى بات من السهل على العربي التواصل مع دول شرق آسيا وأوروبا وغيرهما أكثر من اندماجه وتواصله مع بعض دويلاته في هذه الأقاليم التي تتفق شعوبها أصلا في ثقافاتها القاعدية الأصلية، وما يظهر من بعض الاختلافات كان سببه تلكم القطيعة الاستقلالية الزائفة التي طبعها عليهم الاستعمار البريطاني وخليفته (أمريكا)! تخيَّلتُ أيضا أن ثقافة سكك الحديد لو استمرّتْ لدينا هنا في المملكة مثلا لكان هذا إحراجا شديدا لوزارتي النقل والمالية، فلو استمرّت تلكم الثقافة ولم ينقذنا منها الصديق (لورانس العرب) لكانت سكك الحديد تغطي المملكة من جنوبيها إلى شماليها ومن شرقيها إلى غربيّها، ولوقعتْ الوزارتان في مأزقٍ حضاري ستسببه هذه الثقافة التي حاول (الرجل المريض) زرعها فينا، حيث لن تجدا مناصا من وصل كل مناطق الوطن بأهم وسيلة حضارية في العالم، ولكنتُ زرتُ (العلا ومدائن صالح) قبل هذا الوقت نائما في إحدى عربات القطار، غير أن عمل (لورانس) أعفى وزارتينا من هذه المسؤوليات ووجع الرأس، حتى إن النقل -ممثلةً في إدارتها في المدينة المنورة- لم تتكلفْ حتى بخدمة اللوحات الإرشادية، وما على المواطن الذي يسعفه الحظ والزمن والتخطيط السليم الطويل للوصول إلى محافظة (العلا التاريخ والحضارة) سوى أن يقف بعد كل عدة كيلو مترات ليسأل من يجده: هل أنا في طريقي إلى العلا؟ وقد حدث هذا معي كثيرا، وأعدتُ النظر بعد هذه الرحلة في نظرية اسمها (لعنة الجنوب) حيث اكتشفت أن العاهة لا تقتصر على الجنوب بل تشمل الاتجاهين (شمال – جنوب)، ولو كان لي من الأمر شيء لطلبت من معاليي وزيري النقل والمالية أن يضع كل منهما له مكتبين يقسم بينهما دوامه أحدهما يتجه جنوبا والآخر شمالا، للتعوّد على الاتجاهات الأربعة، ولْيعذرني معالياهما لأنني خرجتُ هذه المرة نحو حضارتنا العظيمة شمالا، تاركا غَنَمي، ورأيتُ رسالة (لورانس) على الطبيعة فاكتشفت لماذا كان حضرته ذكياًّ وفي الزمن المناسب، وهما يدركان أن المواصلات حضارة، ونحن اعتدنا على التنفيذ الحضاري أكثر من اعتيادنا على الخلق الحضاري.
>

شاهد أيضاً

حالة الطقس المتوقعة اليوم الثلاثاء

صحيفة عسير _ واس توقع المركز الوطني للأرصاد في تقريره عن حالة الطقس لهذا اليوم …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com