الكتابة الإبداعية الجيدة غالبا قد لا توجّه، بل هي من يوجه صاحبها، غير أن الكتابة في (الرأي) أميل إلى العقلنة منها إلى الإبداع، وهذا الحكم يؤخذ من المصطلح نفسه، فالرأي ناتج انتقائي عقلي، بينما الإبداع ناتج شعوري.
ويمكن تقسيم الكتابة في الرأي إلى أقسام منها: الكتابة المعلوماتية التي تعرض المعلومات وتعلق عليها، مضفية عليها ما يخص موضوع الاستشهاد بها ومقارنة الواقع المعلوماتي بالمراد تأسيسه، وهذا النوع من الكتابة يمكن أن يفادَ منه لغرض إبداء وجهة نظر. أما النوع المعلوماتي البحت لمجرد العرض، فيعود إلى العرض الصحفي الإعلامي أكثر من انتمائه إلى مواضيع الرأي، إذ مجرد المعلوماتية لم تعد ضرورية لاحتلال مساحة في صفحات الرأي، لأنها صارت ممكنة بأساليب إلكترونية كثيرة تغني القارئ أنّى أراد.
النوع الثاني من الكتابة هو الرأي المجرد النابع من القضية نفسها، بمعنى: الحديث عن قضية ما من وجهة نظر الكاتب نفسه، ومن خلال قضيته ومكانها وزمانها، سواء كانت قضيته دينية أم اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية، فهو يطرح موضوعا مشكلا ويناقشه ويعالجه دون الحاجة إلى المعلوماتية الجاهزة على اعتبار أنه موضوع لم يُعالجْ بالشكل الذي يراه كاتبه، وقد يستعرض شواهد معلوماتية كالإحصاءات والظواهر، لكنه يعالج موضوعا من قلب المكان وزمانه، وهذه الكتابات هي التي تخدم المكان ويحتاجها الزمان.
ومن القراء والإعلاميين من يتَّهمُ بعض الكتاب بالأقلمة والمكانية والمحدودية لأنه يكتب عن المكان سواء في مجال الإبداع أو القضايا المكانية. والأسباب في نظرتهم هذه – كما أرى – تعود إلى سبب إعلامي بحت، حيث كانت النظرة إلى تقريب البعيد تعتبر نجاحا إعلاميا لا يضاهيه الحديثُ عن المألوف ولا حديث المألوف عن مكانه. أما وقد تكلَّم الحديد، واقترب البعيد، وصار استكناه الواقع هو الجديد، فإن خير الكتاب هم من أحسنوا توصيف أماكنهم وقضاياها، وأتقنوا من خلالها إبداعاتهم. ولنا المقارنة بين كاتب نقل لنا ظاهرة ـ سلبا أو إيجابا ـ من إحدى المناطق التي يعيشها، خصوصا مناطق وأماكن ظلمها التاريخ منذ عهود الهجرات الأولى عبر الفتوح العربية المهاجرة أيضا، ثم واصل التاريخ ظلمه إياها مع بدايات العصر الحديث، وآخر ركز اهتمامه على أماكن معينة كالعواصم السياسية والدينية والاقتصادية والمناطق التي سبقتْ في مفهوم (المدينة) الجديد على هذه الجزيرة، وإذا وُجدَ عن تلك المناطق (المُعتمة) شيء من الكتابات فإنما كُتبَ من خارجها وليس منها!
لكل هذه الأشياء يجب على الصحف والقنوات الإعلامية أن تركز نوعا ما ـ في اختياراتها كتاّب الرأي ومقدمي البرامج ـ على التوزيع الديموغرافي للأماكن إضافة إلى الإمكانات الشخصية والثقافية للكاتب، وليس على الأسماء التي وَجَدتْ من الإعلامية تسويقا جيدا فقط، ذلكم أن (الرأي) لا يخضع للإبداعية ـ كما سبق ـ بمقدار ما يخضع للفكرية والنضج واحترافية الكتابة المقالية والإدراك العام لسقف ممكنات الكتابة والأجواء المحيطة بها، أضفْ إلى هذا أن شمولية التعليم والثقافة قد عمَّت الأماكن، فأنت ككاتب لست خير من يمثل الكتابة في الرأي لأنك بشخصك صاحب رأي! بل لمجموعة أسباب مكانية وثقافية وإدراكية قد تكون أسباب استكتابك. سيكون بإمكاني الكتابة عن تجربتي في أي مجال كانت من خلال معايشتي مجتمعا ما في أوروبا أو شمال إفريقيا أو آسيا، وهي موجودة لدي فعلا، وهي ممتعة ورائعة ويمكنني مقارنتها مع مجتمعنا في هذه الجزيرة والإفادة منها، غير أنني أجد في المكان بين البحر والخليج وبحر العرب ما يغني القارئ ويضيف إلى المكان من الكتابة بعض ما أحرم منه قرونا، خصوصا وأن صحوة الإعلام لدينا وبداياته كانت شبه نسخة مصرية أو شامية أو عراقية مما أدى بها أيضا إلى التوجه بإعلاميتها صوب النسخة الأصلية تاركة المكان تقريبا بكرا يحتاج إلى تأسيس يعيد الكتابة إلى الداخل. أقول هذا لعلمي أن هناك الكثير جدا من كتابنا يستطيعون إشباع مكانهم كتابة تغنينا عن نقل ما نعلمه عن أماكن أشبعها التاريخ والإعلام وسبق للكل تقريبا علمها، فلسنا فقراء في ظواهرنا الدينية والاجتماعية والسياسية إلى حدّ التركيز على النقل عن الآخر، ولست بداعٍ هنا إلى التقوقع حول الذات والمكان، فلابد أن الصحيفة أو القناة الإعلامية أيا كانت ستتحفنا بالتنوع عالميا وموضوعيا، وهذا هو الطبيعي، غير أنني من دعاة التحرر من النظرة القاصرة الناتجة عن عقدة النقص لدى المُهَمَّش عبر التاريخ حتى صار ينظر إلى مكانه وذاته من خلال هذه العقدة، فالكاتب الفلاني متميز عنده لأنه عالمي (من مكان ـ ما ـ خارج المكان)، والكاتب الآخر لا يصلح لأنه ليس عالميا أي (من هنا)! ويذكرني هذا مرة أخرى برأي مؤسس علم الاجتماع المفكر العالمي (عبدالرحمن بن خلدون) عن العبودية، حيث يرى أن من أصعب لحظات العمر على العبد هي لحظة تحرّره، فهو ألف حياة ما وليس من السهل عليه الدخول في حياة أخرى هي: الحرِّيَّة، فيتساءل في نفسه عندما يسمع تحريره من الرق: كيف أعيش؟ وكذلكم هي حالة النظرة إلى إمكانية الولوج إلى الداخل في كتاباتنا، كيف نستوعب أن التعمق في داخلنا مكانيا ـ سلبا وإيجابا ـ هو الكتابة المثلى؟
أختمُ بسؤال واحد: أيهما أجدى وأمتع وأولى وأكثر جدة: الكتابة عن قيم أو قضية في جبال (الريث) بأعالي منطقة جازان، أم عن حي (الحسين) في القاهرة أو (الجامع الأموي) في دمشق و(المربد) في بغداد؟ >
شاهد أيضاً
الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة
صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل : انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …