لمْ تكنْ مشكلته منذ وطأتْ قدماه مطار دبي هي التفكير في مفهوم التطاول في البنيان، فقد قرر بعد زمان البترول ألا يعودَ من رعاء الشاء..كما لمْ يعانِ كثيراً -كما توقَّع- من شخوص عينَيه نحو الأعلى تماشياً مع تلكم الأبراج المبهرة.. لقد كانت قضيته وحواسُّه مرتكزةً مع القدمين! إنهما طينيَّتان لم تتعودا على التطاول في البنيان حتى الآن، وأُصيبتا بحالة من الارتعاش وفقدان التوازن بحثاً عن تربة لم تكُنْ تصلحُ إلا له، ولم يكُ يصلحُ إلا لها.. غير أنهم أقنعوه بأنَّ رأس السّنة هناك سيخرجُه من مرض التوحُّد الذي يعيشه دون مجتمعات العالم، فأجواء محيطه ترفض كل أساليب الفرح بالعام الجديد أو بمولود أو وحدة أو اتِّحاد أو تحرُّر، وحتَّى بخِتان ابنه الذي كان يبتهج به قبل تقسيم القوم إلى سلفيات.. بلادُ الربيع العربي التي كان شغلها الشاغل احتضانه في كل مناسبة صارتْ منشغلة عنه بربيعها، فلم تعدْ مهيَّأة لإسعاده كما اعتاد كلما اشتاقَ إلى الفرح.. مستثمرو الخليج بكل أنواعهم وألوانهم قرروا أن يهيِّئوا له كل فصول السَّنة ليصبَّ فيها كل ما ملكتْه واقْترضَتْه يداه.. هناك جزر وأشباه جزر تتراقص على آبار البترول، وأيدٍ تمثِّلُ مخلوقات من كلِّ حدَب نسَلَت تستبقُ في خدمته بكلِّ ما يسعده.. تتوسط هذا الخليج أضخم قاعدة يطلقُ عليها «العديد» حرسها الله باسطةٌ ذراعيها بالوصيد تحرسه من كل مكروه.. قناةٌ تمنحه مساحة لم يحلمْ بها من ديمقراطية الكلمة بعد أن عاش عمره الماضي مكمَّم الفم.. خصام لفظيٌّ شكليٌّ حرٌّ بين القوميِّين والإخوان، وبين الممانعين من شبِّيحات قتل شعوبهم ودعاة التحرر من الطغاة يتوزَّعون في الأبراج هنا وفي أوربا،ومفتٍ تحرسه «العديد» ينتظر بفارغ الصبر خطبةً عصماء على منبر بني أميَّةَ في دمشق احتفالاً ببداية الخلافة بعد تأسيسها في تلكم «العديد» التي قررت تأييد خلافة الإخوان إنقاذاً للخليج من فكرة خطيرة بدأتْ تلوح من قلب جزيرة العرب يطلَقُ عليها «اتِّحاد»، وأياً كان نوع وشكل هذه الوحدة فخطورتها مدروسة محروسة.. لقد تذكَّر صاحبنا خطورة تأييد هذه القاعدة للإخوان هذه المرة خائفاً على خليجه من تكرار فكرة إنشاء أمريكا ذات يوم لقاعدة الجهاد لإضعاف الروس، وعندما تم الاستغناء عنها انقلبت حرية العالم إلى الحرب على القاعدة.. ثم ألا يكفي الخليج «فارسياً كان أم عربياً) أنَّ له قناة حرة التعبير، أليست هذه أقصى درجات الديمقراطية؟ نُقِلَ صاحبكم من المطار حتى أودِعَ – بكل حفاوة- في الطابق الثاني عشر من أحد تلكم الأبراج، ليُصابَ بحالة من الضيق «كأنما يَصَّعَّدُ في السماء».. لكنَّه أفْلتَ ليلاً متلفتاً بين تلكم الأبراج علَّه يعثرُ على تراب.. على شيء من ذاكرة المكان.. على وجوهٍ يعرفها بسيماها.. لا شيء سوى أبراج مصمتة وأقوام من ذوي الدماء الملوَّنة! يا الله! كم هي تجربة مثيرة أن تسير وحيداً في مدينة من الأبراج العالية التي تجهل ما بداخلها ولا تراه! لكنَّ قدميه صمَدتا للبحث عن تراب، فالطين وحده هو ما يمكنه الحديث معه، خصوصاً أن لغته لم تزل حتى اليوم عربية.. ساقه قدره المُعَلْمنُ إلى القناة الإعلامية مصمتة المظهر ذات الضجيج المزعج، التي صارت تخاطب العالم الواسع دون تراب، في تصالح مريب وطمأنينة صامتة إلى «العديد»! لقد أعجب بها كثيراً وهي ترفعُ من شرق جزيرة العرب تلك الأغاني القومية الربيعية العربية التي كان يتغنَّى بها مع المذياع خلال حرب 67م،وها هي ترددها كل ما آنستْ ربيعاً: إذا الشَّعبُ يوماً أراد الحياة.. فلا بدَّ أن يستجيبَ القدرْ «يا مصر قوميْ وشدِّيْ الحِيْل».. ما لفت انتباهه أنَّ حراس الديمقراطية أطلُّوا من «العديد» يرقصون على تلكم الأغاني الوطنية الراقية،إضافةً إلى أنَّ مسلسل جدِّنا «القعقاع بن عمرو» الشهير بَزَغَ ورُوجِع وأُجِيز ومُوِّلَ بديمقراطية من هذا الحِمى.. لقد ازدحمتْ عليه حرِّيات هذا الخليج حتى لمْ يدرِ ما الله به فاعل! فهناك عيد رأس السنة، وهذا جيد له، لأنه الوحيدُ في هذا العالم الذي لا يفرح ببداية عام، فقرر أن يفرح هنا.. أبراج عاجية زجاجية، وهذا جيد لو كانت تملك أرضاً أو بشراً.. قناة حرة ذات مهنيَّة عالية لكنَّها من «العديد» الذي لم يألفه ولا يريد رؤيته.. بترول يتفجَّرُ به هذا الخليج لكنَّ حارسه «عديديٌّ».. مساعدات إلى اللاجئين العرب الذين هجَّرهم حكامهم من أوطانهم وأرادوا التحرر منهم لكنْ: بإرادة «القاعدة الجديدة».. تصنيف الرَّعايا الدَّهماء من المسلمين بتنويع مذاهبهم ودعمهم للاستماتة ضدَّ أبْعاضهم..
ما كان لتراب المكان أن يغيب وهو يرى معاناة صاحبه في البحث عنه وعن مصيره في زمن العولمة المتسارع، فانفجر عليه فجأة أحد بقايا تربة المكان خارجاً من بين تلكم الأبراج هو الشاعر: إبراهيم محمد إبراهيم، بعد أيام قضاها صاحبكم في صراع بين قدمين يبحثان عن أرض، وعينين تجذبهما الأبراج المعدنية عالياً، أقبل إبراهيم في اليوم الأخير يقول:
منْ لنا غيرُكَ/ يُدنينا من البابِ../ أرِحْنا/ قبلَ أنْ تستيقِظَ الشَّمْسُ/ ونعْرَى تحتها../ يا أيُّها الحارِسُ/ لسنا لعبةً بينَ يديكْ.
اطمأنَّ صاحبكم بأن في هذا الخليج بقايا من العروبة وإنْ قلَّتْ، لكنه بقيَ يحملُ سؤاله الذي جاء به إلى الخليج: من قال إن الخليج عربي؟ ويصرُّ على رفضه الذي يسرُّه ممالأةً لزمن البترول – كغيره في هذا العالم-: أنا لستُ خليجياً.. أنا عربي..>
شاهد أيضاً
الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة
صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل : انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …