لنعمل بعمق… لننطق بعمق

الحب والصلاة تجربتان للطاقة نفسها، ولكن الحب أرضيّ أكثر، والصلاة لا أرضية أكثر، تجربة الحب البشري لها حدودها من شخص لشخص، أما الصلاة لله فهي غير محدودة، لأنها من شخص إلى وجود أعظم لا مشخّص، وعندما ترتبط النفس بوجود لا مشخّص فإنها تتماهى فيه، وكأنها أشبه بقطرة تنزلق إلى المحيط، فلا يمكن لهذه القطرة أن تتصل بالمحيط وتبقى على حالها، ولكن الأجمل أنها حين تفقد حدودها فإنها تفعل لمصلحة المحيط، فهي لم تخسر، ولكنها تكسب، فإذا قلنا إن الصلاة تشتمل أيضاً على حب لوجود غير مشخّص، فلابد أن نعرف إن كانت قلوبنا مليئة بهذا الحب ونحن نصلي، أم أننا نصلي لأنهم علمونا أن نصلي، فإذا كان عقلك محشواً بمواقف مضادة للحب عندها من غير المنطقي عملياً أن يظهر للوجود، أو أن يتجه لخالق هذا الوجود ويكون صادقاً، فمشاعر مدمرة مثل الغيرة والحسد والحقد والكره والغضب والانتقام من شأنها مجتمعة ومنفردة أن تعيق نمو عاطفة الحب الصافي بداخل الإنسان، وقد تجد صاحبها وهو يداوم على الصلاة ويؤديها في أماكن العبادة ولكنها لم تغير فيه شيئاً جوهرياً، ذلك لأنها صلاة لم تتعد لسانه، فلا إحساس فيها، وحده المرء القادر على الحب بعمق، وعلى التضحية بإخلاص سيجرب معنى الصلاة، فعندها سيكون فيها شيء منه، شيء يحمل قيمة حقيقية، وحين تبدأ الرحلة بالحب وتنتهي بالنور أو قل الاستنارة فلا يوجد في وسط الرحلة غير الصلاة، فلننطق بعمق.

جوهر الدين لا يكون متعدداً، بينما يمكن للفلسفات أن تتعدد وتتنوع على عدد عقول البشر، فلكل شخص فلسفته الخاصة، أما الحقيقة فهي واحدة، وكينونتي وكينونتك في الأعماق ليستا منفصلتين، فكلنا في المركز نلتقي ونتحد، ولكننا تُهنا عن المركز فتهنا عن بعضنا بعضاً، فجمعنا بيت الله على أرضه، جمعتنا كعبته في رحلة حج أكبر كل عام، لنتأكد أننا نختلف نعم، ولكن على السطح حيث كل موجة منفصلة عن الأخرى، إنما في الأعماق فلا يوجد سوى محيط واحد، تلك هي روح الله فينا، تلك التجربة من التوحد هي الحقيقة، هو اختراق سطح الأرض والسماء إلى مركزهما والذي تتشرف بلدي السعودية برعايته كل عام، فإن لم يكن لوطني فضل سوى هذا الشرف فإنه يكفيه، وكما قال أمير مكة وعراب نجاح موسم حجها خالد الفيصل أن يجتمع ثلاثة ملايين نسمة في وقت واحد ثم ينتقلون سبع مرات وفي وقت قصير وكل هذا في غضون خمسة أيام، لتلحق بتلك الجموع حاجاتهم بكل ما يلزمهم وكأن مدينة متكاملة بجميع خدماتها وأهلها تمشي معهم، فهذا حدث نادر لا يوازيه «سنوياً» تجمع آخر بمجهود آخر في العالم، فحتى مناسبات الأولمبياد وكأس العالم وما شابه لا تتكرر كل عام، أفلا يحق للسعودية إذاً أن تفخر بأهمية إنجازها!

لا توجد في الحياة أمور عظيمة هكذا دفعة واحدة، ولكن توجد أشياء صغيرة وتفاصيل متشعبة تحولت إلى أمور يشاد بها عند الاستعداد لها والتآلف بين أجزائها، وكل عمل وراءه جهد أكثر من عمل، فإن كان موسم الحج لهذه السنة على الأعداد الغفيرة التي شهدها قد انتهى بسلام، فهذا الختام الجميل كان نتيجة تحدٍ جبار لاجتياز عقبات التقصير والإهمال واللا نظام، وقد صار، فانظر إلى التحديات حين تجعلك باجتيازها ثرياً بثقتك، وانظر إليك حين تقدم للوجود شيئاً أفضل مما وجدته عليه، فالأنا تعني محاولتك الانفصال عن الكل، وحين تخبو هذه الأنا، فيخبو السعي إلى الانفصال، وتكون جاهزاً للاندماج والذوبان، يخلق اللقاء مع الكل تلك السعادة بالبركة والنشوة، ذلك هو هدف العبادة، ذلك هو العمل بعمق، والنطق بعمق.

>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com