قبل عقد من الزمان عرضتُ على أبنائي طلاب كلية اللغة العربية – وكنت أدرسهم مادة الحديث النبوي – كتابة اقتراحات تتعلق بتحسين أسلوب عرض المادة – قبل أن نعرف مصطلح الجودة والتطوير الذي تطنطن به الجامعات ، وتُصرف فيه بلا طائل ألوف المئات – ، ومما كُتب لي ولم يكن له علاقة بالموضوع : ( يا شيخنا أسألك بالله أن تدعو بأن ييسر الله لي الزواج بابنة عمي فإني أحبها حبًّا شديدًا ) .
وأنا أقلب أوراق الماضي ، وأبعثر صفحات أول زماني ، وبعد مرور عشر سنوات ؛ أتساءل ؛ هل تزوج محبوبته ؟ وجمعه العرسُ بعشيقته ؟
أم أن تيارات الظروف ، وأمواج الأقدار ، انجرفت به إلى امرأة أخرى ، وسكن الجسدُ والكيانُ إلى من لم يسكن القلبَ والجنانَ .
ومع تساءلي يقترن عجبي من عظيم بحر حبه ، وعميق قعر عشقه ، اللذين أجبراه إلى البوح به ، والتشكي منه ؛ في أزمنة نعيشها خلت فيها دروب الصبابة من العاشقين ، وسكنت الأماكن من آهات المشتاقين .
ومثله إذا تزوج بمن غرق قلبُه في يم حبها ، وتعلقت نفسه بأغصان شجوها ؛ فلن يطرق باب بيته كدر الشقاق ، ولن يلج صدره شؤم الخِلاف .
فالحب إذا كان لذات محبوبته فإنه يدوم ، ومعه كل المشاكل تذوب ، وشهر عسلهما سيطول ، وشوق الغرام بينهما لا يحول ، وأما إذا كان الحب – صرفًا – لغرض جنسي ، وراتب وظيفي ، أو لمآرب أخرى ، ولغايات عنده غير الحب عظمى ، فإنه ينعدم عندما تنتهي اللذة ، ويُفقدُ عندما تقل الرغبة ، ويولي عندما تُنال الحاجة .
ومن قصص المحبين ، وصدق عشق المتيمين ؛ أنه مضى على زواج عجوزين خمسون سنة ، وذات يوم تشاجرا ، فكتب العجوز إلى زوجته الكلمة الآتية : ( أرجو يا عزيزتي أن نؤجل هذا النقاش إلى ما بعد شهر العسل ) .
فإذا وُجد الحب الحقيقي بين الزوجين – الذي معه تحترق القلوب شوقًا إذا نزل بهما ألم الفِراق ، وحال بينهما موج الغياب والشتات ، والذي أيضًا فيه تذوب الأجساد غرامًا ، وتنحل الأبدان هيامًا إذا هجم العتبُ ، ونالك منها الغضبُ . عندها كل مشكلة بينكما تغرق في بحر حبكما ، وكل خلاف يذوب أمام حرارة عشقكما .
وقد تزَوَّجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدٍ بِنْتَ عَمْرٍو . وَقَدْ أَلِفَهَا حَتَّى اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : طَلِّقْهَا فَطَلَّقَهَا ؛ وَقَالَ :
( فَلَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ الْيَوْمَ مِثْلَهَا … وَلَا مِثْلُهَا فِي غَيْرِ شَيْءٍ يُطَلَّقُ )
فَقَالَ أَبُوهُ : رَاجِعْهَا يَا بُنَيَّ فَإِنِّي أَرَاكَ مُحِبّاً لَهَا .
وفي هذا الخبر : ( في واقعة نادرة الحصول في أيامنا أجهزت موجة عارمة من الحزن على حياة خمسيني يمني ، بعد ساعتين ونصفٍ فقط من وفاة زوجته الأربعينية ، لتستمر عائلتهما في تقبل العزاء خمسة أيام متواصلة ، حسبما ذكرت جريدة “الرآي” الكويتية . وبحسب شهود عيان للصحيفة ” فإن امرأة يمنية في الخامسة والأربعين من عمرها وافتها المنية يوم الأحد الماضي في مديرية ميفعة عنس ، بمحافظة ذمار – وسط اليمن – جراء حمى شديدة ألمت بها ، وبعدما دُفنت، ظل زوجها غارقا في الوجوم والصمت لا يكاد يدري ما حوله ، بعد أن استولت عليه الصدمة ، وسط دهشة المعزين الذين حاولوا إخراجه من حالته دون جدوى” . وأكمل الشهود : “إن حبًّا نادرًا كان يجمع بين الزوجين اللذين لم يسمع أحد من جيرانهما بأنهما تشاجرا مرة واحدة ، أو حتى ارتفع حوارهما قليلاً ، وبينما كان المعزون يتوافدون لتقديم المواساة للزوج المكلوم وعائلته، فوجئ الجميع بسقوطه من الإعياء ولم تمضِ بضع دقائق حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ، ولم يكن انقضى على دفن زوجته أكثر من مائة وخمسين دقيقة ، ليسارع أبناء المنطقة والأقارب إلى استعادة مشهد الجنازة، حيث شيعوه – وسط حزن غامر – إلى مثواه الأخير إلى جوار زوجته التي قتلته حبًّا ” . يذكر أن أحد أبناء المتوفى أكد مشاهدته الدموع تملأ عيني والده حتى بعد مفارقته الحياة ، في ظل صدمة جموع المعزين الذين رأوا مثالا نادرًا على الحب لا يشهدونه كثيراً في هذه الأيام ) ا . هـ
هذا هو الحب الصادق ، والغرام اللذيذ ، والصبابة الممتعة ، التي معها يتفجر القلب عيونًا من الحنان والمودة ، والرأفة والرحمة ، وتسمعُ منهما ثناءً وغزلاً ، ومدحًا ولعبًا .
وعندما يُفقد مثل هذا الحب : يعيش الزوجان حياة بئيسة ، وأيامًا تعيسة ، ولحظات عصيبة .
وعندما يُفقد الحب : تكثر المهاترات السقيمة ، والكلمات القبيحة ، والمشكلات العويصة .
وعندما يُفقد الحب : يبرز مصطلح ” حقوق الزوجين ” ، الذي يدندن به المستشارون وأهل إصلاح ذات البين، وبسببهم ماتت خصلة الإيثار بين الحبيبين .
وعندما يُفقد الحب : يفقد البيت استقراره ، وتهتز أركانه ، وتتشقق جدرانه .
وعندما يُفقد الحب : تكثر المقارنات ، وتعظم المفارقات ، وتزيد من أحدهما على الآخر شر الدعوات .
وعندما يُفقد الحب : تقل بينهما الرغبة ، وتغلب على حياتهما الوحشة ، وتذهب منهما الونسة .
وعندما يُفقد الحب : تُرى العيوب ، وتعظم الخطوب ، ويختفي دلع المحبوب .
وعندما يُفقد الحب : العيشة من أجل البنات والأبناء ؛ هكذا يقولها الزوجان دائمًا بلا حياء .
وعندما يُفقد الحب : يصبح ماء الود ضحضاح ، ودخان الصد والسب فواح ، وينادي بينهما منادي الأتراح .
وعندما يُفقد الحب : الألفة تتضعضع ، والوئام يتزعزع ، والقلب بالكره يتضلع .
وعندما يُفقد الحب : لا معنى للهمسات واللمسات ، ولا جدوى من النظرات والضحكات .
وأخيرًا – قارئي الكريم – يقول أحد رقباء البريد خلال الحرب العالمية في فرنسا ، أنه رأى رسالة كتبها أحدُ الجنود إلى زوجته في الوطن ، قال فيها : ( أوقفي هذه الرسائل المزعجة ، ودعيني أتمتع بهذه الحرب في سلام ) ، هذا هو حال كثير من المتزوجين فـي هذا العصر .
>