وفاءً بأستاذي ماهر بن محمد العُبيد –رحمه الله- الذي شَرفت بأن أكون أحد طلابه في الثانوية الأولى بخميس مشيط ،ثم كان لي شرف رتبة الزمالة له فيما بعد في الإشراف التربوي بتعليم عسير”مكتب التربية والتعليم بخميس مشيط ” أستأذنكم في أن أتوقف معكم لأسكب سطورا من حكايات وذكريات يكتنفها حزني على فقده الذي أصابني بالألم لفراقه ،وقد قضى نحبه ،ولاقى وجه ربه ،وودع الدنيا وترك لي ولجيلي من طلابه الذي سبقوني، والذين زاملوني ،والذين درّسهم بعدي ،مآثر نستذكرها بعد رحيله0
لقد كان الأستاذ ماهر العبيد له من اسمه نصيب ،إذْ كان ماهرا في التعليم ،خبيرا في التربية ،قاموسا في الأدب والثقافة ،حينما يتحدث يختار العبارات بعناية ودقة ،رُزق بصوت جَهْوري ،عندما يقرأ شيئا من محفوظاته الشعرية أو النثرية ،بود من يستمع إليه ،لو أنه يطيل في الحديث والإلقاء لروعة إلقائه0
حينما ألمّت به وعكة صحية كانت صعبة ،وأدخل على أثرها المستشفى لإجراء عملية ،قمتُ مع ثلة من زملائه وطلابه بزيارته بمستشفى غسان فرعون، وكانت زوجه أم محمد إلى جواره تضّمد آلام نفسه ،وتواسيه ،خرج من المستشفى إلا إن ألامه أشتدت عليه ،فسافر إلى الأردن لاستكمال علاجه إلا إن القدر كان بانتظار زوجه لتنتقل إلى الحياة الآخرة وتسبقه إليها ،وحينما عاد إلى السعودية وقمتُ بزيارته ،لم يكن دمعه ليتوقف ؛إلا ويفيض من عينيه ،كلما تذكر رفيقة دربه التي فُجع برحيلها ،وهي التي كانت تُؤنس وحشته ،وتَسهر إلى جواره ،وكأني به هو القائل وليس البارودي :
“يادهر فيما فجعتني بحليلة ..كانت خلاصة عدتي وعتادي”
فكنت أجد صعوبة في أن أذّكر أستاذي والذي كان في مقام والدي بالصبر ،وهو من منحنا الدرس تلو الدرس ،ولعل طلابه يذكرون كيف كان يعاملهم بالمدرسة وخارجها ،وكيف أنه يشاركهم الرحل المدرسية ،ويبادلهم الزيارات المنزلية ،وفي حصص الرياضة كيف كنا نتسابق لندعوه ليشاركنا اللعب،كانت ابتسامته الحانية تزّين وجهه ،وحين يُذكر تاريخ التعليم بخميس مشيط منذ منتصف التسعينيات الهجرية كان يأتي اسمه في ثنايا الحديث عن تلك الفترة ،ولا أبالغ إن قلت نصف أبناء الخميس من هم الآن في سن “35-55″سنة يعرفون الأستاذ ماهر العبيد ،إما مدرسًا لهم في الثانوية الأولى بالخميس ،أو مشرفًا تربويًا ،إذْ أنه زار معظم مدارس منطقة عسير ،وقد كان لزياراته المدرسية للمعلمين حكاية أخرى،وقد شرفت بزيارته مرات عدة ،فلم يكن ليكثر التوجيهات،إذْ أنه يطفيء الظمأ المعرفي للمعلمين برشفات باردة هانئة ،يشربها المعلم المزور بشغف ،من معين تجاربه وخبراته ،من يعرف أبا محمد – وهكذا كان يُكنى – يعلم ميزته في الحفظ والتذكر فمثلا كان حين يقابلني وأنا معلم قبل التحاقي بالإشراف التربوي ،يذكر لي اسمي الرباعي ورقم جلوسي في الصف حين كنت طالبا عنده،ومن كان يجلس أمامي وخلفي ،وهكذا كان يفعل مع كل طلابه حين يلقاهم،وهي هبة لافتة للنظر تمتع بها،كان سمح القلب ،هاديء الطباع ،في مكتبنا بمكتب التربية والتعليم بالخميس ،كانت لنا لحظات ماتعة فحينما أعود من زيارة مدرسة ،فأجده قد سبقني ،أو أنا سبقته كان الحديث يأخذنا نحو ذكريات التعليم و همومه ومواقفه ،خاصة أن أبا محمد قضى مايزيد عن 30 سنة معلما ثم مشرفا تربويا في منطقة عسير وحدها،اليوم حينما أوجه نظري إلى مكتبه لأفتش عنه فلا أراه ،لا أجد لي من سلوى تطفي لظى وداع من كان مكتبه إلى جوار مكتبي إلا بيت للمتنبي أتعزى بها :
“نبكي على الدنيا ومامن معشر ..جمعتهم الدنيا ولم يتفرقوا”
أوبقايا ذكريات أتذكرها عن أستاذي،وذلك الحضور الذي كان يحظى به حينما نزور برفقة زملاء قسمنا الصفوف الأولية بالخميس المدارس ،وكانت من جمله التي حُفظت عنه “ليس من في المدرج كمن هو في الملعب” “السبورة عنوان المعلم “كان دقيقا في تسجيل ملحوظاته في سجله الشخصي للزيارات،تمّيز برقة العاطفة ،فلم تكن دمعته لتفارق خديه ،خاصة عندما يستحضر صور زوجه أم محمد ،ويتذكر مصير أبنائه بعد رحيله ،وقد قالها لي غير مرة”لاأخاف الموت ياولدي .بل خوفي على أبنائي “فكنت أقول له الحارس والراعي هو الله،رحل أبو محمد ولم يتبق لي ولزملائه،وطلابه إلا أن يترحموا عليه وهم يمرون بصور ومواقف من ذكرياتهم معه،رحم الله أستاذي ماهر العبيد0
mfaya11@hotmail.com>