أنا بطبعي عاشق للآثار، أشعر أنني من خلالها أعرف أكثر عن كنه تواجدنا كبشر على وجه البسيطة، فيجذبني الأثر من على البعد، وأدفع الكثير من أجل جولة فكر بسيطة حول أثر قد يحكي لي عما قد يعجز أن يحكيه كتاب.
فأنا أشعر بحميمية قوية أثناء التمعن في الأثر، وتفحصه، لأخذ العبرة، ولمحاورته في صمت عما حدث، وعما سيكون له في جوفي من عظيم الأثر.
والكل يعرف ما تفعله معظم دول العالم لإبراز آثارها، مهما كانت بسيطة، والمحافظة عليها، والتباهي بها، والاستفادة منها، وربط تاريخها التليد بالحاضر المجيد، في سيمفونية تكامل وتناغم وفخر.
ولكني أتعجب كل العجب من زمارنا، الذي لا يُطرب، وعما يحدث لآثارنا في جزيرة العرب، تلك التي نتعامل معها وكأنها نسيا منسيا، أو أنها عار يجب التستر عليه، وإذا تفضلت عليها «الهيئة العامة للسياحة والآثار»، وهبت لها سلكا شائكا، وحارسا يغيب عنها في أكثر الأوقات.
وعليه، فليس من العجب أن نجد كثيرا من آثارنا القديمة منهوبة، مسروقة، وأن عجائبها وتحفها منتصبة في بعض المتاحف العالمية، كأبناء غير شرعيين لمن تولوا الرعاية بها نيابة عنا.
وتتحرك منظمة «اليونيسكو»، وهي المعنية بالآثار الإنسانية في عام 2008م، وتبادر بضم «مدائن صالح، أو الحجر» إلى لائحة التراث العالمي، في خطوة تعتبر الأولى، والتي يدرج فيها موقع سعودي على لائحة المواقع المعمارية والطبيعية، التي تتمتع «بقيمة عالمية استثنائية»، حيث يحتوي موقع مدائن صالح على عدد 131 مدفنا، منها 32 مدفنا حُدد تاريخها، بين العام الأول قبل الميلاد، وحتى العام 75 الميلادي.
وهذه المدافن العجيبة بواجهاتها المزخرفة، تعتبر آية في فن العمارة والهندسة والنحت، فكل واجهة لمبنى تمثل مقبرة لعائلة معينة، وبعض المقابر تكون فردية، وأخرى متعددة الحجرات، منقوشة جدرانها وأبوابها بشكل متصل، وقد وجد في النقوش مخطوطات بالحروف النبطية، توضح ملكية المقبرة وتاريخها، وهي بلا شك تعتبر شهادة فريدة للحضارات «الثمودية، والنَبطية والحيانيّة»، البائدة.
وتضم أيضا عددا من النقوش البديعة والزخارف، ومن رسوم الكهوف.
وتقع «مدائن صالح أو الحجر» على بُعد عشرين كيلومترًا تقريبًا جنوب مدينة «العلا»، وهي موقع أثريّ بوادي «القرى»، جنوب غربي «تيماء».
وعلى بعد 500 كلم جنوب شرق مدينة «البتراء» الأردنية الأثرية، والتي تم اعتبارها من عجائب الدنيا الحالية، مع أن آثارها لا تختلف كثيرا عما هو موجود في «مدائن صالح».
وقد ذكر القرآن الكريم قصّة «النبي صالح»، مع قومه، وكيف أن الله قد وَهَبَهم من النّعم والثراء ما لم يقدروه، وأنهم قد جابوا الصّخر بالواد لبناء قصورهم، ولكنهم كفروا بنعمة الله، وعبدوا الأوثان من دونه، فأرسل إليهم النبي صالح، ليدعوهم إلى عبادة الله، فآمن منهم فئة قليلة، وكذبه أغلبهم، وكلنا نعرف ما تلا ذلك من قصة الناقة وسقياها، وعقرها.
وقد أثرت العوامل المناخية والزمانية على شكل المباني النهائي، وطمرت الكثير من التحف والتماثيل، والذي تفنن أهلها في رسم نقوشها ونحتها.
وهي اليوم تقف شامخة بيننا على شكل بقايا بيوت، وقصور، وأسواق، وشوارع، إضافة إلى المباني الدينية، والعسكرية، ووحدات معمارية فنية مشهورة مثل «الخزيمات»، و»قصر البنت» و»الديوان»، و»الكهف»، و»العجوز»، والفريد، و»محلب الناقة»، وهناك واجهات منحوتة تختلف عن المقابر كديوان «أبي زيد»، و»محاريب»، وقنوات منحوتة، وآبار لحفظ المياه وتصريفها، وهذه أدلة مادية أكيدة على تمتع سكانها حينذاك بدرجات عالية من العلوم، والهندسة، والتمدن والحضارة.
ونعود لدور هيئة السياحة، التي نأمل أن تولي هذه الآثار مزيداً من الجهود، وكيف أنه لو تم ربطها بطرق سريعة، وأوجد بقربها فنادق ومدن سياحية وترفيهية وأسواق، وربما شواطئ على أقرب نقطة لها من البحر الأحمر، لما سافر الكثير منا للخارج طلبا للسياحة العائلية.
وأما بالنسبة لفتوى عدم المبيت في تلك المنطقة، فيمكن التعامل معها بألا يبيت السياح في حدود مناطق المنع، ويمكن أن تقام المدن السياحية على بعد كاف خارج النطاق، مما لا يؤدي للمبيت فيها.
للأسف، لدينا الكثير من الآثار، في جميع مناطق المملكة، مما يمكن أن يشكل دخلا إستراتيجيا للبلد، ومما يمكن أن يساعد على توظيف أعداد كبيرة من الشباب العاطلين، ومما يمكن أن يصب في مصلحتنا جميعا، بأن ينظر العالم لجزيرتنا بمنظار حضاري، وأن يعلموا أن الإنسان فيها كان، منذ الأزل فنانا مبدعا، وأن عجائب الدنيا يمكن أن تكون بيننا، أسوة ببقية الأمم.>
شاهد أيضاً
الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة
صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل : انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …