أحزان على شُرفات العيد

حين اشتعلت نيران المواجهة على حدودنا الجنوبية دفاعا عن سيادة الوطن وكرامته أمام ثلة من البغاة المعتدين كانت منطقة جازان كلها تعيش فرحا وكأنها في عرس وهي تحتفي وتؤازر وترحب بفرق جيشنا القادمة إلى الجبهة. كتبت حينها مقالا عنوانه «النسخة الأصلية للوطنية»، رمزت من خلاله إلى الحب العميق الصادق والولاء المتجذر للوطن الذي يتغلغل في نفوس أبناء المنطقة .. وخلال أيام المواجهة أشرت إلى الدور المشرف الذي قام به أبناء المنطقة في وقوفهم كخط دفاع مهم يؤازر الجيش ببسالة .. وحين اقتضت الظروف أن يرحل سكان القرى الحدودية الواقعة في خط المواجهة امتثل الجميع للأمر لأن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وقد أشرت حينذاك إلى صعوبة الرحيل من المنبت والجذر والتراب والمكان والذكريات والتأريخ وكل التفاصيل الحميمة. كنت أحاول أن أنبه إلى أنه ليس سهلا أن يتحول الإنسان إلى «نازح»، وأنه لا بد من مراعاة العوامل النفسية بشكل خاص لمن أوجدنا لهم مسمى جديدا «النازحون» .. امتثلوا وتركوا منازلهم ومزارعهم وكل ما يخصهم أملا في عودة سريعة بعد استتباب الأمور. مكثوا وقتا طويلا في مخيمات لا نود استرجاع ذكرياتها المؤلمة لهم ولنا. بادرت الدولة بقرار إنشاء 10 آلاف وحدة سكنية وإسكان النازحين في شقق مؤقتة وصرف إعانات نقدية عاجلة لهم .. كان وضعا صعبا للغاية فالمتوفر من الشقق السكنية قليل في المنطقة مقابل العدد الكبير للنازحين، ولكن لم يكن أمامهم إلا الرضا بالموجود ..

رغم كل المعاناة التي مروا بها إلا أن البعد عن ديارهم كان أشد ما يؤلمهم .. كانوا على استعداد أن ينتظروا طويلا مهما كانت ظروفهم مقابل الأمل في العودة .. وكم شعرت بالسعادة عندما نشرت الصحف في الأيام الأولى من رمضان خبرا عن لقاء سمو أمير منطقة جازان بعدد من أبناء محافظة «الحرث» الواقعة في بؤرة المواجهة ووعده لهم بأن عودتهم ستكون قريبة .. ولكن لم يمهل الوقت هؤلاء المتعبين المشردين لارتشاف لذة الوعد بالعودة لأن دراما الحزن العنيفة قررت أن تصدمهم في وقت قاتل حين صدر قرار بخروجهم، أو إخراجهم من المساكن المؤقتة .. إلى أين ؟؟ إلى المجهول ..

كل الناس يترقبون العيد بشوق وفرح .. والنازحون المبعدون ينتظرونه والدمع ينكأ عيونهم كأشواك الصبار ..

الناس يزينون بيوتهم ليستقبلوا فيها زوار العيد .. والنازحون يرحلون قسرا من مآويهم المؤقتة إلى اللامكان، بعد أن هجروا من بيوتهم وسيطردون من مساكنهم المؤقتة ..

أطفال الناس سيمرحون ويلهون في الحدائق .. وأطفال النازحين قد يقضون العيد على الأرصفة مبللين بالأسى ..

فأي منطق هذا؟؟.

أي منطق يجيز معاملة الذين ضحوا بأرواحهم وبيوتهم وأملاكهم في سبيل الوطن بهذا الشكل؟؟.

أي منطق يسوغ معاناتهم في المخيمات، وأخيرا إخراجهم في ليلة عيد من مآويهم المؤقتة؟؟.

يا ملك الإنسانية .. يا والدنا الكبير الذي يسكن قلوبنا .. يا أبا متعب ..

أقسم أنه لا يرضيك أن يحدث هذا لأبنائك الذين يصدح الوطن في أعماقهم ..

كلنا ننتظر لفتة من لفتاتك العظيمة تجاههم قبل أن يشرق عليهم يوم العيد بدموع الحزن .. وبعد ذلك يناشدونك أن تسائل كل الذين تسببوا في تعبهم وحرمانهم من حقوقهم، منذ بداية المأساة إلى هذا اليوم ..

أنت لها أيها الملك الإنسان العظيم.

>

شاهد أيضاً

مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث يطلق خدمة الاستشارات الصيدلانية الافتراضية

  صحيفة عسير _ متابعات _ فاطمة محمد مبارك  أطلق مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com